الضوء من النافذة اليسرى

TT

كتب محمد حسنين هيكل في السياسة وحدها. وكتب أحمد بهاء الدين في السياسة والفكر، واكتفى مصطفى أمين باليوميات إلى جانب روايات قليلة ومذكرات السجن. وكتب محمد التابعي في السياسة وأحمال الذكريات. وكتب أنيس منصور في كل شيء: الفلسفة، الفلك، الغيبيات، العلوم، الأدب، الفن، المقابلة، الذكريات، السير، التاريخ، السياسة، وفي كل شيء آخر.

وكتب في السفر سهولا وبحارا وأنهرا. وترجم أيضا. وأجرى المقابلات الإذاعية والتلفزيونية. وقام بمهمات سياسية، حولها، كما حوَّل كل شيء آخر، إلى صحافة وزوايا جذابة ودروس في العمل الصحافي لمن أراد أن يتعلم. وليس لمن أراد أن يقلد. فمثل الرواد كان صعبا أن يقلد. بل لعله كان الأكثر صعوبة.

لم يكن يترك الخيار في من يريد الكتابة عنه، أو عما يريد. كنت تندفع طوعا إلى ما يقدمه: حكاية حب قديمة في إيطاليا، زيارة إلى صديقه ألبرتو مورافيا، مقابلة مع مارلين مونرو لم تزد على كلمة «هالو»، استعادة لجلسة مع معلمه الكبير، العقاد، أو آخر اكتشافات «هابل» بين المجرات والنجوم.

كان عنده سحر الطبق. أو سحر الباقة. يترك كل شيء لذوقه، واثقا من أنه أتقن عمله وبرع فيه ولم يبق لك سوى أن تقرأ. كانت ثقته بنفسه هائلة لدرجة يتجاوز معها الحدث، ولا يلتفت إليه. ومنذ ثورة تونس حتى يومه الأخير رفض التعليق على يوميات المنطقة، أو ثورة مصر، أو أي حركة أخرى؛ لا في «الأهرام» ولا هنا، على اليسار، في هذه النافذة الجميلة.

طالبه قراء كثيرون في «الأهرام» بأن يدلي برأيه أو موقفه أو توجيهاته إلى شباب الثورة. لم يستجب. ظل يعود إلى العقاد وتوفيق الحكيم والإيطالية التي ظلت رحيق العمر حتى بعد ذبول كل الورود. أخذ الكثير من العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ، لكن كم أعطاهم. وفي ظني أن جزءا كبيرا من العقاد هو من صنع أنيس منصور. وشيء كثير من مصر هو من صنعه. وشيء كثير من القرية والعائلة المصرية هو من جميل ذكرياته.

جعل القرية المصرية فيلما ممتعا من أفلام ديزني. أعادنا دائما، هو المولود أوائل القرن الماضي، إلى الطربوش والحنطور والجلابية. وبالطربوش انتقل إلى دراسة الفلسفة وسورين كيركيفورد. وفي كل عصر كان الأول في عصره وفي زمنه. وإذ غاب عن 87 عاما يبدو وكأنه عاش في زمن نوح والحياة التي تبلغ 800 عام؛ عشرات الكتب ومئات الأسفار وعشرات آلاف المقالات.

وفي كل شيء كان صحافيا بارعا وكاتبا فريدا. وكان في صورة خاصة راوية جذابا ويمزج السياسات العليا بالحدوتة الحلوة. وكان مصريا مثل رمسيس، يكتب عن أبناء المنصورة جميعا وكأنهم رفاقه في الحي، وكنت أعتقد أن المنصورة بلدة صغيرة يعرف أهلها بأسمائهم الأولى، فسألته مرة: كم عدد أهل المنصورة؟ ما اعرفش تماما، لكن يمكن حكاية تسعة ملايين.

أيها الجار الكبير، كم من الضوء كان يأتينا من نافذتك كل يوم.