استقالة وزير

TT

آخر مرة استقال فيها وزير حربية بريطاني كانت عام 1963 من حكومة هارولد ماكميلان المحافظة. سبب استقالة جون بروفيومو لم يكن تورطه غراميا مع الغانية الحسناء كريستين كيللير ابنة العشرين ربيعا (وكانت على علاقة بعميل مخابرات كي جي بي في السفارة السوفياتية أثناء ذروة الحرب الباردة وصواريخ نيكيتا خروتشوف النووية تستهدف لندن) بل لأنه ضلل البرلمان، أعلى سلطة في البلاد باعتباره صوت الأمة والمحكمة التي يحاسب فيها الشعب السلطة التنفيذية.

بعد كشف الصحافة العلاقة نفى الوزير غرامياته، وترتيبه سفر المدموزيل كيللير إلى إسبانيا لتختفي عن الأنظار خشية انكشاف العلاقة أثناء نظر قضية طلبت فيها للشهادة ضد متهم بحيازة أسلحة غير مرخصة وبالكسب غير الأخلاقي من مصدر غير مشروع، مما عرض الوزير لتهمة التآمر لتحريف سير العدالة (وهي مخالفة جنائية في خطورة الشهادة الزور).

ولا يوجد رجل سياسة واحد في تاريخ بريطانيا ثبتت عليه تهمة تضليل مجلس العموم إلا ووري مستقبله السياسي التراب.

عاد اسم بروفيومو إلى ذاكرتي البرلمان وشارع الصحافة بعد قرابة أربعة عقود من استقالته عندما احتلت أخبار الدكتور ليام فوكس وزير الدفاع في حكومة تحالف المحافظين والأحرار لنشرات الأخبار والصفحات الأولى لأسبوع انتهى باستقالته (ويحضرني قول الزعيم المحافظ ماكميلان «أسبوع بمثابة دهر في عالم السياسة») بعد مخالفته للائحة إرشادات العمل الوزاري.

لم يشفع لفوكس نجاح وزارة الدفاع بقيادته في إحدى أصعب المراحل في التاريخ الحربي للإمبراطورية أثناء أزمة تقلص ميزانية الدفاع.

قيادة تطلبت مهارات تفاوضية مع ساسة حلفاء عرب وأطلسيين وأوروبيين ومحامين دوليين. الحملة العسكرية السياسية التي قادتها بريطانيا بمساعدة فرنسا دوليا لدعم الشعب الليبي خلال الأشهر الماضية ابتداء من حماية المدنيين في بنغازي من انتقام الكولونيل القذافي وأولاده ومرتزقته إلى تمكين الليبيين من تحرير أنفسهم والتخلص من القذافي نفسه في سرت، مرورا بإخلاء آلاف المغتربين، وتقديم العون المادي والطبي بالتنسيق مع الحلفاء.

الإنجاز الكبير - عقب تعثر سنوات والعجز عن تحقيق الأهداف المعلنة في حملتي أفغانستان والعراق - شطب في لحظة من ملف الوزير ليقف مساء الأربعاء يعتذر للبرلمان عن أخطائه.

الأسبوع بدأ بكشف الصحافة أن صديقه الحميم، وكان شاهد زفافه، اصطحبه في عدد من رحلاته الخارجية؛ ووصف نفسه في بطاقة زيارته الشخصية المطبوعة، بـ«المستشار الخاص». الواقع أن الصديق لم يكن مستشارا رسميا في الوزارة. ورغم كثرة تردده على مكتب الوزير كصديق خاص، فلم يحمل بطاقة مرور للوزارات أو البرلمان والتي لا تمنح إلا بعد إجراء تحقيق أمني للمخابرات يستغرق فترة طويلة ويشمل عائلة وأقارب الشخص وأصدقائه. وعدم حمل البطاقة يعني أن المخابرات لم تتأكد من عدم وجود نقاط ضعف أو تهديد لأمن المملكة المتحدة.

الوزير في بريطانيا رجل سياسة منتخب وعضو في البرلمان، ولذا فهو شخصية عامة مسؤولة و«المستشار الخاص» لا بد يخضع بدوره لرقابة كل من الدولة والبرلمان.

جميع أعضاء مجلس الوزراء نواب منتخبون؛ وإذا عين وزير لضرورة سياسية من خارج مجلس العموم فيكون من مجلس اللوردات (الشيوخ) كالبارونة سعيدة فارسي أول وزيرة مسلمة عينها ديفيد كاميرون. السبب طبعا خضوع الوزير لمساءلة البرلمان.

وللشهادة، فصديق الوزير لا شك في وطنيته، لكن الخلط بين الصداقة الشخصية ومسؤوليات المنصب الرسمية، أوقعت الحكومة في مأزق مع الصحافة ومع البرلمان. فالقانون واللوائح لا تعرف الاستثناءات. مثلا الأمير وليام، حفيد الملكة والثاني في التسلسل للعرش بعد والده الأمير تشارلز، لم يمنح استثناء لمهمة ملكية بتغيير نوبته الليلية (أو تقصيرها من 12 ساعة) في الأسبوع نفسه كطيار هليكوبتر في فريق إنقاذ السواحل في سلاح الجو الملكي. وبلا راحة توجه مباشرة مع زوجته دوقة كمبردج كممثل القصر في الأعمال الخيرية لزيارة مستشفى الأمراض المستعصية للأطفال (وكانت والدته الراحلة ديانا افتتحته قبل ربع قرن).

وإذا لم يكن هناك استثناء لملك بريطانيا القادم (بعد عمر طويل) فلا يمكن أن يستثنى صديق لوزير بدوره موظفا عند الشعب بالانتخاب.

الوزير أخفى معلومات مهمة عن البرلمان. وكالعادة، كشفتها الصحافة، العين الساهرة للشعب. كشفت الصحافة إلقاء الصديق محاضرات في معاهد استراتيجية في الخارج قدم فيها «كمستشار لوزير دفاع بريطانيا» ولم يصحح المعلومة وقتها، مما أثار شكوكا حول استغلال المنصب لمزايا شخصية.

الصحافة نشرت صور مصاحبة الصديق للوزير في عشاء في مطعم في دبي «وتصادف»، حسب رواية الوزير، وجود رجل أعمال - مدير لشركة تتاجر في معدات الدفاع - في المطعم فشاركهما العشاء.

وهنا تظهر أهمية فصل الدستور البريطاني بين الدولة ككيان ثابت وهيكل للأمة ترأسها الملكة، وبين الحكومة المتغايرة بالانتخاب.

لائحة إرشادات أعمال الوزير لا تمنحه فرصة لقاء أي صحافي أو رجل أعمال أو ضيف أجنبي إلا بمصاحبة موظف دولة أو ما يعرف بخادم التاج civil servant وبدوره محايدا سياسيا لا ينتمي لأي حزب، ووظيفته ثابتة لا تتغير بتغير الوزير.

خادم التاج لا بد من حضوره أي جلسة أو زيارة للوزير كشاهد يدون مذكرة بما دار فيها ويسجل في أوراق الوزارة. ورغم غياب دستور مكتوب في بريطانيا، فإن التقاليد الدستورية الديمقراطية المحفوظة عن ظهر قلب تفصل تماما بين خدم التاج كموظفي دولة ثابتين وبين الوزير المنتخب.

فمخالفة أكثر وزراء دفاع بريطانيا نجاحا في العقدين الأخيرين، للوائح الدستورية، وتضليل البرلمان والرأي العام كانا وراء استقالته. واعترافه بخطئه واعتذاره للشعب عبر البرلمان جعله عملاقا في عيون خصومه قبل أصدقائه. والخطوة حقنة فيتامين للديمقراطية البريطانية (الوحيدة في العالم التي تجبر تقليدها رئيس الحكومة حضور استجواب البرلمان كل أربعاء، وتحرم عليه إعلان أي سياسة جديدة إلا أمام البرلمان والإجابة على كل الأسئلة ثم طرحها للتصويت).

وانتقال الوزير المستقيل من «البنش» الأمامي (حيث يجلس الوزراء في مجلس العموم) إلى المقاعد الخلفية يقوي النواب المشاكسين للحكومة والذين تعمل لهم ألف حساب، حيث يقدمون مشاريع قوانين وإصلاحات خارج حسابات الحكومة، لأنها تعكس رغبة الناخبين في الدائرة.

الحكاية نهديها للقراء في تونس ومصر. الأمتان مقبلتان على انتخابات برلمانية، خاصة في مصر حيث شكل الدولة - كهيكل يحفظ كيان الأمة وتتناوب الحكومات على سكن المبنى - والدستور (كمنظم لقوانين البناء واستعمال المبنى) لم يتحدد بعد.

والضمان من درس بريطانيا هذا الأسبوع هو تحديد ملامح الدولة والدستور، قبل انتخاب الحكومة، بحماية قانون ليس فيه استثناءات.