دعه يأكل دعه يشرب.. دعه يدخل الحمام

TT

الدولة هي المحتكر الوحيد للعنف في إطار القانون، أي أنه ليس من حق أي مخلوق على وجه الأرض ولأي سبب مشاركتها هذا الاحتكار. وشرعية العنف هنا مستمدة من هدفه النهائي والواضح وهو حماية الناس من العنف والمزيد منه، أي أنه في اللحظة التي يتم فيها تجاهل أو عدم تفعيل هذه القاعدة، نكون قد سمحنا لكل القادرين على ممارسة العنف، أن يمارسوه بالشكل الذي يحلو لهم. وهو ما يفقد المواطن احترامه للدولة، وبالتالي يغريه بالعدوان عليها. أنتقل الآن للحكاية التالية التي استرعت انتباهي لطرافتها.

(دخل إضراب عمال الشركة المصرية للاتصالات يومه الثاني أمس، بعد اعتصام المئات منهم في سنترال الأوبرا للمطالبة بإقالة قيادات الشركة، واحتجزوا المهندس محمد عبد الرحيم، الرئيس التنفيذي للشركة داخل مكتبه لمدة 18 ساعة، رفضوا خلالها إدخال الأطعمة له، وفشلت المفاوضات معهم للسماح بخروجه نظرا لحالته الصحية، وتدخلت وحدة من القوات الخاصة المشتركة من الأمن والشرطة العسكرية لتحريره بهدم أحد الحوائط وإخراجه - «المصري اليوم» في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2011) من الخبر المنشور ربما يتصور القارئ أن هناك قوات خاصة في مصر مخصصة لإنقاذ مديري الشركات ورجال الإدارة العليا وتحريرهم في حال احتجازهم بواسطة الأعداء من موظفيهم، الواقع أنه لا توجد قوات خاصة في مصر مخصصة لهذا الغرض، إنها نفس القوات الخاصة الموجودة في كل جيوش العالم وشرطته المدربة على تخليص الرهائن في طائرة مخطوفة مثلا، وهي قوات ذات كفاءة عالية، غير أنه لا بد من الاعتراف بأننا نزج بها في غير ميادينها. ومن متابعة الواقعة كما نشرتها الجرائد، يتضح لنا أن القوات لم تهدم جدارا بل فتحت ثغرة في الحائط من مبنى مجاور وأخرجت الرهينة منها بعد أن ارتدى نقابا لكي لا يتعرف عليه أحد، ولما كان من غير المعقول أن يرتدى أحد - حتى الآن - نقابا على بدلة أو بنطلون وقميص، لذلك فمن المحتمل أنه ارتدى النقاب وعباءة نسائية ، مستبعدا تماما حكاية أنه تمت تغطيته بملاءة كما ذكرت بعض الأنباء. المعلومات التي ذكرتها لك منشورة في كل الجرائد، أما ما يلي ذلك فهو يستند لمصادر ثلاثة، الأول غير موثوق والثاني مشكوك في صدقيته والثالث متهم بالشهادة الزور في أربع قضايا ما زالت منظورة أمام المحاكم. وإلى أن يتسنى لي التأكد من مصادر أخرى، أنا أطلب من القارئ الكريم - بأقوى الكلمات - أن يتعامل بحذر مع ما سأقدمه له من معلومات.

هناك شخص في القوات الخاصة يسمى (المفاوض) هو شخص خبير بالنفس البشرية ولديه قدرات خاصة على مواجهة المشاكل وحلها، بعد عدة ساعات من احتجاز الرهينة استدعوه على عجل فجاء في طائرة خاصة حيث كان في مأمورية في أفغانستان، تساءل عن نوعية السلاح الذي يحتفظ به العدو، وتشكيلاته والجهات التي يتبعها وفوجئ أنه لا أحد يعرف عنهم أي شيء سوى أنهم يطالبون باستقالة المدير العام للشركة، بالتأكيد فكّر الرجل أنها أسهل مهمة يكلف بها في حياته، صعد إلى المكتب الذي تحتجز فيه الرهينة وقال لهم بلطف وبصوت واضح: «أنا فلان الفلاني مسؤول التفاوض في عمليات إقالة المسؤولين الإداريين واحتجازهم وضربهم.. ولقد أتيت لأتفاوض معكم، ومن المهم أن تعرفوا أن لدي الصلاحية لتنفيذ كل ما نتوصل إليه من اتفاقات».

استقبلوا الرجل فكان سؤاله الأول هو: طلباتكم.. ماذا تريدون؟

فصاحوا في نفس واحد: أن يقدم المدير استقالته..

المفاوض: ماشي.. هذا طلب معقول جدا.. هذا عصر لا يبقى فيه المسؤولون في أماكنهم إلى الأبد.. لا بد أن يستقيل أو ينقل أو يموت، فهل أنتم تريدون منه أن يستقيل أم يموت؟ أنتم تمنعون عنه الطعام والشراب ودخول الحمام، لنبدأ بإدخال الطعام والماء ولنسمح له بدخول الحمام.

صيحات: لأ.. مستحيل.. دعه يشعر بآلام الجوع والعطش لكي يعرف ما يعانيه الشعب.. لا بد من حرمانه من دخول الحمام لكي يشعر بآلام هؤلاء الذين يعيشون في الأحياء الشعبية دون صرف صحي ولا حمامات.

وبعد نقاش عصبي طويل تمكن الرجل من إقناعهم بإدخال أكياس بلاستيك يقضي الرجل فيها حاجته، ولكن المفاوض فشل تماما في إقناعهم بإدخال طعام أو ماء، الغريب في الأمر أن احتياجات الرجل تحولت إلى موقع على «فيس بوك» بعدها بدقائق، معلنة أن الليبرالية القديمة - دعه يعمل دعه يمر - قد ماتت، وأنه على الإنسان أن يحارب من أجل مبدأ جديد هو دعه يأكل دعه يشرب.. دعه يدخل الحمام.

عاد المفاوض يقول بصرامة: أيها السادة أنتم تحتجزون مواطنا بغير سند قانوني وتمارسون بذلك سلطات لم يمنحها لكم القانون، ومنعه من الأكل والشرب ودخول الحمام يوقعكم في متاعب مع الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان ويشكل انتهاكا واضحا لحقوق الأسير طبقا لاتفاقيات جنيف، أنتم تعذبون أسيرا، هل أذكركم بأن امرأة عذبت في هرّة لأنها حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، إنني أستحلفكم بالله أن تفكروا بالعدل والإنصاف، حتى لو قدم استقالته الآن، فسيكون واضحا للعالم كله أنه أرغم على ذلك، وبعد أن ينتهي كل شيء سوف تتحرك ماكينة الدولة الأمنية والعدلية وتحاسبكم على ما فعلتموه حسابا عسيرا..

صوت ضحكات تبلغ حد القهقهات: نعم.. هل تتصور أننا أغبياء؟ لنفرض أنه أبلغ النيابة.. ترى من سيشهد على هذه الواقعة؟ سنقول لوكيل النيابة وللقاضي إننا جئنا لتهنئته بعيد ميلاده، وسنقسم على ذلك بكل الكتب السماوية ثم نصوم بعدها ثلاثة أيام.. وبعد أن تقوم المحكمة بتبرئتنا سنرفع عليه مائة قضية تعويض ورد شرف.. وعليك أنت كمان.. يا راجل فوق.. ده حضرتك مش شايف حاجة.. هل سمعت هذه الأيام عن أحد عوقب لأنه احتجز رهينة.. اسمع الكلام وادخل اقنعه يستقيل.

في هذه اللحظة استقبل المفاوض مكالمة تليفونية قال بعدها: حسنا أيها السادة.. تمكنت قواتنا من تحرير الأسير.

قال أحدهم: كده.. يعني كنت بتخدعنا وتشغلنا لحد ما تاخدوه..؟ طيب.. حانخطفه من أي حتة ونخليه يستقيل.

نحن في عصر إعادة النظر في الثوابت الفلسفية، ما حدث وجّه ضربة قاتلة لديكارت الذي قال: أنا أفكر إذن أنا موجود. اتضح أن التفكير في حد ذاته ليس دليلا على وجودك، وجودك يتحول إلى عدم عندما لا تأكل ولا تشرب ولا تدخل الحمام. أحسست بالجوع، دخلت المطبخ، أعددت ساندوتش جبنة رومي دعمته بحبة طماطم حولتها إلى شرائح، أخرجت من الثلاجة زجاجة ماء مثلجة، بعدها بدقائق دخلت الحمام.. أحمدك يا رب.. لست وزيرا يشتم كل يوم، لست مديرا لشركة أو رئيسا لهيئة يتم حصاره وتهديده ، لست مستثمرا يُطلب منه أن يبل عقوده واتفاقياته ويشرب ميتها، أنا حر.. أنا آكل وأشرب وأدخل الحمام.. يا إلهي.. كم أنا سعيد.. أرجوك، إوعى تقول لحد، فأنا أخشى الحسد.