بعد سقوط القذافي.. ما عاد الانتظار طويلا

TT

«ليس ثمة ما هو أسهل من خداع الذات عندما يتصور المرء أن أمانيه حقائق». (ديموستين)

كثيرون مثلي ضايقهم منظر اللحظات الأخيرة في حياة معمر القذافي.

ما شاهدته وشاهده الملايين مرفوض، وإن كان ثمة مَن يبرره بـ«فورة الدم» عند الثوار الشبان، أو الكراهية الشديدة في أفئدة قلوب ذوي الضحايا والشهداء، أو المعاناة الطويلة من عتو ديكتاتورية دموية.. زادها قبحا مزاجيتها وتوقها لتدمير كل مقومات المجتمع المدني في ليبيا..

أولا، مرفوض إنسانيا لأننا هنا إزاء تصفية أسير.. وليس مواجهة مقاتل.

وثانيا، مرفوض سياسيا لأنه يعطي الانطباع - الخاطئ كما أرجو - بأن الجيل المرشح لبناء ليبيا المستقبل لم يتشرب بعد أهمية احترام أصول «دولة المؤسسات»، التي عمل القذافي على سحقها على امتداد أكثر من أربعة عقود.

أعتقد أن ثورة ليبيا كانت ستكون أجمل وأنقى، والذكريات المنطبعة في الأذهان عن تركة القذافي السيئة أعظم وقعا.. بدلا من أن يطغى عليها مشهد رجل سبعيني جريح يتعرض للضرب ويستعطف قتلته قبل أن يجهزوا عليه.

من ناحية أخرى، بمعزل عن «نظرية المؤامرة»، أزعم أن جهات عديدة كانت لديها مصلحة، بل مصالح، في التعجيل بطي الصفحة.. من دون محاكمات أو أسئلة محرجة تنبش في ماضي صفقات مريبة كثيرة. ثم إن الحُكم المرتقب على القذافي وبعض أعوانه كان سيكون الإعدام على أي حال. وبالتالي، هناك من يجادل جديا في مدى الفائدة المأمولة من «مسرحيات» قضائية تسيء إلى القشرة الرقيقة الباقية في ليبيا من سلطة القانون.. المفترض أنها مستقلة عن السياسة ومنزهة عن الأهواء. وكما شاهدنا في العراق، صارت «محاكمة» صدام حسين ورجال نظامه أشبه بـ«المهزلة» المتطاولة التي لم تنته فصولها حتى اليوم. ولعلها بلغت الذروة في حالة طه ياسين رمضان، الذي بعد صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد.. ألغت محكمة التمييز الحكم (!) وأنزلت بحقه عقوبة الإعدام.. فشنق!

في حالات من هذا النوع، لا تعود ثمة حاجة لمرافعات ومحامين وأدلة واعتبارات تخفيفية.. إذا كان «شبق» الإعدام الانتقامي أقوى من أي رغبة في العدالة لذاتها، أو في بناء علاقات تعايش مستقبلية بين مكونات الشعب. وما رأيناه في العراق، وأرجو أن لا نراه في ليبيا، وغيرها من الدول المنتفضة على حكام تغولوا في جريمة تمزيق نسيج أقطارهم الاجتماعي والفئوي، كارثة حقيقية.. ستعاني من تبعاتها عدة أجيال.

طبعا المسؤولية الأولى في هذا الواقع المؤلم مسؤولية حكام جهولين ومتسلطين وفاسدين لا قيمة عندهم لحياة الإنسان ولا لحقوقه.. ولا لبيئة اجتماعية متآلفة ولا لأطر مؤسساتية وقانونية تصون تلك الحياة وتكفل تلك الحقوق. ولكن هؤلاء الحكام ليسوا «نبتة برية» نمت هكذا بخلاف الطبيعة.. إنهم أبناء الشعب ذاته الذي احتقروه واستخفوا به.. فغدا ملايين الناس وفق قناعاتهم.. مجرد «جرذان» أو «مندسين» أو «عملاء وإرهابيين»، بمن فيهم الأطفال.

أنظمة الحكم التسلطية، والحمد لله، ليست «ماركة مسجلة» حصرية للعالمين العربي والإسلامي، فقد شاهدنا أمثلة عديدة لها في الأرجنتين وتشيلي والفلبين وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية.. وحتى اليوم في بورما (ميانمار). لكن شعوب هذه الدول، بمعظمها، واجهت مشكلاتها.. ليس بالهرب من الحقيقة، بل بقول الحقيقة بشجاعة، وبناء الوفاق على أساس المصارحة.. ومن ثم المسامحة.

في جنوب أفريقيا كان دور «مفوضية الحقيقة والمصالحة» أساسيا في الحفاظ على وحدة البلاد بعد سقوط نظام «الفصل العنصري» الذي مارسته بقسوة الأقلية البيضاء لأكثر من أربعة عقود بين 1948 1994. وفي كل من الأرجنتين وتشيلي عرف المجتمع المدني بفضل التعقل وممارسة الديمقراطية المسؤولة واحترام سلطة القانون والاستفادة منها، كيف يتجاوز عواقب جرائم إخفاء «المختفين» (يقدر عددهم بين 18 ألفا و30 ألف شخص بين 1976 و1983) على أيدي «الجنرالات» الأرجنتينيين وعلى رأسهم هورهي رافاييل فيديلا، وفظائع الجنرال أوغوستو بينوشيت الموازية في تشيلي.

كم نحن بحاجة إلى مصارحة في عالمنا العربي..

مصارحة بالعمق، تزيل مشاعر الغبن والخوف والتهميش، وتتعامل مع كل فرد، أولا على أنه «إنسان» له حقوق طبيعية يجب احترامها.. قبل مطالبته بالواجبات، وثانيا على أنه «مواطن» يحقق ذاته ويتفاعل مع الآخرين في إطار «عقد اجتماعي» يحدد ما له وما عليه في «دولة القانون والمؤسسات».

بالأمس، وسط مظاهر الفرح المستحق عند ذوي الأسرى الفلسطينيين والعرب المحررين من سجون إسرائيل، شعرت بشيء من المرارة رغم السعادة الغامرة بإطلاق سراح مناضلين، وأبرياء أيضا.. فها هو العدو الذي يحاربنا منذ 1948، ويصادر أرضنا ويقتل أو يعتقل أو يشرد أهلنا، يبادل أسيرا واحدا بأكثر من ألف أسير منا.

جلعاد شاليط يعني الكثير الكثير حتى لنظام «تمييز ديني».. كي لا نستخدم وصفا أسوأ وأصدق.

فرد واحد لم تتقبل بيئته أن يظل أسيرا ولو لبضع سنين، بينما يأسر ديكتاتوراتنا عشرات الملايين لثلاثين سنة.. وأربعين سنة.. وأكثر، ويُصدمون إذا تنفس «أسراهم».. فتململوا ثم ثاروا، وعندها يجردون عليهم الدبابات والمدفعية، وحتى الطيران.. مع «بلطجيتهم» و«شبيحتهم» و«لجانهم الشعبية»!

إسرائيل لم تعتبر ولن تعتبر نفسها خاسرة في صفقة مبادلة واحد مقابل ألف.. لأن «إنسانها» غال جدا في مقاييسها. واستطرادا، يصبح طبيعيا أن تطبق على «مواطنيها» أحد أرقى الأنظمة الانتخابية الديمقراطية في العالم، بينما لأنها تعتبر نفسها في حالة حرب مع شعب غريب على هويتها، نراها تمارس ضده شتى أنواع التضييق والاضطهاد.

«مواطنية» الإسرائيلي أتاحت لإسرائيل ليس فقط تكوين أحد أقوى جيوش العالم، بل جعلتها أيضا إحدى أبرز الدول المصدرة للتكنولوجيا في العالم، وإحدى أكثر دول الدنيا تقدما في التقديمات الاجتماعية وفق تقارير التنمية الدولية، التي تحتل في قوائم معدلات دخل الفرد مراتب تتراوح بين الـ27 والـ31 في العالم بنحو 29 ألف دولار في السنة.

أما نحن، فما زلنا في انتظار أن يخطو الصامدون - حتى الآن - من ديكتاتوراتنا الخطوة الأولى على طريق الاعتراف بـ«إنسانية» شعوبهم.

لقد انتظرت الشعوب الصابرة طويلا، وبعض القوى العالمية البارعة في «السمسرة» السياسية وتبادل تسجيل النقاط فوق أنهار الدماء.. ما زالت ترى مصلحة في إعطاء مزيد من الفرص العبثية بالنسبة لنظام سوري عاجز عن تغيير طبيعته، مع أن صبرها نفد أخيرا مع نظيره اليمني.

بعد سقوط القذافي غدا الأمل كبيرا في أن هذا الانتظار لن يطول كثيرا.. «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون» (صدق الله العظيم). (سورة البقرة - 179)