(طير حوران)

TT

إنني لا أحسن الرثاء، ولا أعرف كيف أستدر الدموع، لكنني إذا حزنت جثم الصمت على صدري، وأصبحت كالتائه لا أدري كيف أتصرف ولا حتى كيف أتكلم أو أعبر عما يجيش في نفسي.

وهذه نقطة ضعف رهيبة ومؤلمة، فليس هناك علاج للصدمات والأحزان أكثر من (الفضفضة)، وأنا لا أعرف كيف أفضفض.

لهذا ألجأ أحيانا للاستعارة ممن أحس أنهم ينطقون بأحاسيسي، ولم أجد هناك أصدق للتعبير عن فجيعتي في وفاة (الأمير سلطان)، من فجيعة (الأخطل الصغير) في وفاة (سعد زغلول) عندما رثاه قائلا:

«قالوا دهت مصر دهياء فقلت لهم:

هل غيض النيل أم زلزل الهرم؟!

قالوا: أشد وأنكى.. قلت: ويحكم إذن

لقد مات سعد وانطوى العلم».

وهذا هو لسان حالي بغياب شمس سلطان.

كما أنني أستعير هذين البيتين من الشعر الشعبي لشاعرين مختلفين عندما قال الأول:

«بعض العرب موتهم تخفيف - مير البلا موت (سلطان)»..

وقال الثاني:

«واجد حرار اللي معه تجي وتروح

والفرق بين أطيارهن واطيرانه»..

نعم هذا هو (طير حوران) سلطان الذي تعجز الأمهات أن يلدن مثله وبصفاته النبيلة المتعددة.

ولأضرب لكم مثلا واحدا وبسيطا عن حادثة واحدة رواها لي أحد شهودها عندما قال:

«كنت حاضرا في مجلس الأمير في أوائل السبعينات الميلادية، فقدم له أحدهم معروضا يطلب فيه المساعدة مع من قدم، فشرح الأمير بقلمه على الورقة بإعطائه (5000) ريال وكانت قيمة المبلغ في ذلك الوقت كبيرة، ويبدو أنه سها وزاد نقطة رابعة على الرقم فأصبح (50.000) ريال.

وعندما ذهب بالورقة أراد الوكيل أن يعطيه خمسة آلاف ريال فقط شأنه شأن الآخرين، فرفض الرجل أن يأخذها لأن الأمير كتب وراء الخمسة أربع نقاط، وعندما لم تصل مجادلته مع الوكيل إلى نهاية، ما كان منه إلا أن يعود للأمير مرة ثانية قائلا له: أنت طال عمرك أردت أن تمنحني خمسة آلاف، غير أن قلمك كتبها خمسين ألفا، ولا أدري كيف أتصرف؟!

فانتفض الأمير قائلا: أنا ولد عبد العزيز، والله لن يكون قلمي أكرم مني، هات الورقة هاتها، وزاد على النقاط الأربع نقطة خامسة فأصبح الرقم هو (500.000) ريال، ولكي يوثق الرقم كتب تحته خطيا: يعطى خمسمائة ألف ريال، ويقال إن الرجل اشترى بذلك المبلغ بيتا له ولعائلته».

إنها حادثة تشبه الأساطير لكنها واقعية.

رحم الله سلطان الذي تجمعت في شخصه نوادر الصفات التي قلما تتجمع في رجل واحد، لقد كان يرسو مثلما ترسو شواهق الجبال.