جمهورية عمرو موسى!

TT

كنت قد كتبت في هذا المكان، مقالا، تحت عنوان «بيضة الديك في سباق الرئاسة المصرية» يوم 3 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وكنت أتحدث فيه عن مرشحي الرئاسة في مصر، وكيف أنهم كثيرون، وبلا عدد تقريبا، ثم إنهم، في الوقت نفسه، لا يكاد يميزهم بعضهم عن بعض شيء، إلا عمرو موسى.. لا لشيء، إلا لأني أظن، وبعض الظن ليس إثما، أن الذي يظل يميز مرشحا عن غيره من منافسيه في أي انتخابات، وليس في الانتخابات المصرية فقط، هو البرنامج الذي على هذا المرشح أن يتقدم به إلى ناخبيه، ليختاروه هو، دون سواه.. ومثل هذا البرنامج يبقى في العادة برنامجا مكتوبا، أولا، ومعلنا، ثانيا، ومحددا بملامحه ومعالمه، وهذا هو الأهم، ثالثا، حتى يمكن للناخب، في مثل هذه الحالة، أن يعرف رأسه من قدميه، وأن يعرف بالتالي على أي أساس سوف يختار هذا، من المرشحين المطروحين أمامه، وعلى أي أساس سوف يستبعد ذاك.. منهم!

يومها، كنت أشير إلى مقال منشور لعمرو موسى، في «الأهرام» بوصفه، أي المقال، جزءا من برنامجه الانتخابي الذي سوف يتقدم به إلى الناخبين المصريين، وكان المقال المنشور له يتكلم عن الكيفية التي يمكن أن تنتقل بها مصر، من دولة كان يحكمها نظام سلطوي ديكتاتوري، بدءا من قيام ثورة يوليو 1952، وحتى الساعة التي تنحى فيها الرئيس السابق حسني مبارك عن الحكم يوم 11 فبراير (شباط) الماضي.. إلى دولة يحكمها نظام ديمقراطي لا مركزي، في ظل الجمهورية الثانية، التي سوف تقوم فيها هذه الديمقراطية اللامركزية، عندما يأتي لها رئيس جديد، في انتخابات الرئاسة المقبلة.

قرأ عمرو موسى ما كتبته، ثم أرسل لي خطابا يؤكد فيه على الفكرة ذاتها، من جديد، ويقول إن وضعها موضع التنفيذ، في الجمهورية الثانية، يحتاج إلى وقت، وإلى جهد، وإن الأساس في الانتقال من نظام سلطوي ديكتاتوري، إلى نظام ديمقراطي لا مركزي، هو تقسيم المسؤوليات والصلاحيات، بين السلطة الأم القائمة في العاصمة، عندئذ، والسلطة المحلية القائمة في كل محافظة على حدة!

ولا بد هنا أن أقول إني عندما شبهت ما نشره عمرو موسى في «الأهرام» بـ«بيضة الديك» كنت أريد أن أشير إلى أن الديك في العرف الشعبي، إذا باض! فإنه يبيض مرة واحدة، ولا يكررها، وبالتالي فقد دأب المصريون خصوصا، والعرب عموما على تشبيه الشيء الذي لا مثيل له بـ«بيضة الديك»، إلى أن تأتي ساعة يكون له فيها نظير، فلا يعود يشبه بيضة الديك، حينئذ.. ولو أن أحدا «عرض ما يتقدم به مرشحو الرئاسة المصريون، إلى ناخبيهم، هذه الأيام، فسوف يستوقفه أن عمرو موسى هو الوحيد، حتى هذه اللحظة، الذي تقدم إلى الناخبين بشيء مكتوب بصرف النظر طبعا عما إذا كان هذا الشيء المكتوب محل اتفاق، أو موضع خلاف، وبصرف النظر أيضا، عما إذا كان من الممكن تنفيذه، أم إنه صعب، وليس من السهل إخراجه في كيان متجسد في النور.

يؤمن عمرو موسى، في خطابه الذي تلقيته، إيمانا عميقا بالفكرة، ويراها حلا لآفة طالما جنت على الجمهورية المصرية الأولى، في مراحلها الثلاث، بدءا من عبد الناصر، ومرورا بالسادات، وانتهاء بمبارك.. هذه الآفة هي المركزية المفرطة التي كانت ولا تزال تختزل البلد كله في عاصمته، بحيث تستحوذ القاهرة، في كل الأحوال، على كل شيء تقريبا، ولا يتبقى للأقاليم والمحافظات، سوى الفتات الذي لا يجدي في شيء.. وبطبيعة الحال، فإن أي إنسان يعيش في مصر يشعر في كل وقت بثقل هذه الآفة، التي يتوقف عندها «موسى»، ويراها الأجدى بالعلاج أولا، قبل غيرها من الآفات الكثيرة.. إذ ليس أدل عليها، وعلى تداعياتها خارج العاصمة، من أن أبناء الأقاليم خارج القاهرة، لا يزال الواحد منهم إلى اليوم، إذا أراد أن يسافر من مدينته أو قريته، في أي مكان على امتداد الدولة، إلى القاهرة، فإنه لا يقول إنه ذاهب إلى القاهرة، ولكنه يقول، ربما بضغط من تراكم «قاهري» طويل، إنه ذاهب إلى «مصر».. وكأن القاهرة هي مصر.. ومصر هي القاهرة.. أما الذين هم خارجها، فإن لهم الله، ثم عمرو موسى، إذا كتب له الله أن يكون رئيسا، فينظر وقتها ماذا يرى من أجلهم.

ولكن.. رغم اتفاقي معه، في الشكل، وفي المضمون الحافل بتفاصيل كثيرة في خطابه، فإنني أختلف في ترتيب الفكرة، من حيث الأولويات التي سوف يكون عليه، كرئيس، أن يعمل وفقا لها، حين يفوز.

أراها فكرة مفيدة للغاية، ومجدية، ولكنها، في الوقت نفسه، في حاجة إلى بشر مؤهلين ينقلونها من خيال افتراضي نظري في ذهن صاحبها، إلى واقع عملي يعيشه الناس، ولن يكون في مقدوره، وحده، أن يحقق لها هذا الانتقال.. إنه يملكها، ويدعو إلى تنفيذها، ويتعهد بذلك، عندما يفوز، ويشرح وسائل هذا التنفيذ، وبدايته، ونهايته، ومداه الزمني، ويعدد فوائدها.. ولكنه، وحده مرة أخرى، لا يمكنه أن يفعل ذلك، مهما كان حماسه، ومهما كان إيمانه بها، ويقينه فيها، ولذلك فهو في حاجة إلى ناخبين مؤهلين يمكنهم عند الضرورة، أن يسعفوه، وأن يخرجوا إلى صناديق الاقتراع، وأن ينتخبوا سلطة محلية، في كل محافظة أو ولاية، فيكون في إمكانهم، ساعتها، أن يراقبوا السلطة، طوال الوقت، وأن يحاسبوها، ويعيدوا انتخابها، فيما بعد، أو يأتوا بغيرها.

هذا كله في حاجة إلى تعديل طفيف، في فقه الأولويات، لدى عمرو موسى، بوصفه مرشحا رئاسيا محتملا عنده برنامجه.. وهذا التعديل الطفيف يتطلب أن تكون الفكرة هي رقم 3 في برنامجه المكتمل.. أما رقم واحد فهو «إتاحة فرصة تعليم حقيقي للمواطنين، في كافة مراحل الدراسة».. وأما رقم 2 فهو «توفير رعاية صحية آدمية» لكل مواطن، لتأتي فكرته تلك، بعد ذلك، في الترتيب الثالث بين الأولويات.

طبعا.. أعرف أن إتاحة تعليم من هذا النوع، في حاجة إلى جيل كامل، لتؤتي ثمارها على الأرض، أي في حاجة إلى عشرين عاما تقريبا.. ولكن.. ليس هناك في تقديري بديل آخر، إذا أردنا لها، كفكرة، أن تتحقق كما يتعين لها.. إذ الإنسان «المؤهل» هو الأساس فيها، وبغير هذا الإنسان «المؤهل» مع وضع مائة خط تحت هذه الكلمة، التي بين الأقواس، يصبح تنفيذها شيئا بالغ الصعوبة.. فتش عن الإنسان المؤهل، باعتباره أداة، عند تجسيد أي فكرة على الأرض.. فهو إذا حضر، حضرت هي معه، وإذا غاب، غابت معه، وإن ظلت تحلق في السماء!