سلطان بن عبد العزيز.. عملاق بأيدٍ ناعمة

TT

كنت في مدينة نيويورك في شهر يوليو (تموز) الماضي، زائرا المدينة الغامضة، عاصمة المال والشهرة، واتصلت بالصديق المهندس عبد الله المعلمي، مندوب المملكة الدائم في الأمم المتحدة، والذي كان معنا عضوا في الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون، ثم زرته في مكتبه مستفسرا عن صحة الأمير سلطان وعن إمكانية زيارته، فأخبرني بأنه سينقل سؤالي إلى سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز المرابط في المستشفى مع الأمير سلطان.

عرفت سمو الأمير سلطان في الستينات في اجتماعات الجامعة العربية حيث كان يترأس الوفد السعودي في اجتماعات مجلس الدفاع العربي الأعلى المكون من وزراء الخارجية ووزراء الدفاع العرب، وكنت عضوا في الوفد الكويتي الذي كان يترأسه سمو الشيخ صباح الأحمد عندما كان وزيرا للخارجية، ولاحظت خلال تلك المداولات والتي كانت تعقد في بيئة سياسية عربية سيئة أطلق عليها المعلقون (حروب العرب الباردة) كيف يتصرف الأمير سلطان. كان سلوك الأمير سلطان نابعا من مقامه العالي في احترام النفس، وتقدير الكلمة، والالتزام بهيبة الوقار، فلا يتحدث بعنف ولا تغريه الثرثرة، عازفا عن النقد، ومتحاشيا القيل والقال، رغم صخب الصحافة المصرية، في تلك الفترة، ضد المملكة العربية إبان حروب اليمن وصدماتها.

كان الأمير سلطان في تلك الاجتماعات العربية، ورغم كل المتاعب مع الراديكالية العربية، يدعو إلى نبذ التفرقة والترفع عن السوقية في الألفاظ، مولعا بالاقتطاف من الآيات القرآنية والأحاديث، مبرزا دعوة الدين الإسلامي إلى التآخي والتعاضد وتأكيد النوايا الحسنة.

كنت أتابع اتصالاته ومداخلاته، وأستخلص أنه عملاق لكنه عملاق بأيدٍ ناعمة، واتضحت لي حقيقة الأمير سلطان وهويته عندما جئت إلى الرياض كأمين عام لمجلس التعاون، مجددا معرفة قديمة مع الأمير الراحل، ودافعا بتلك المعرفة إلى ترابط مبني على الثقة لا سيما في ملفات وزراء الدفاع الذين دعاهم المجلس الأعلى لمجلس التعاون إلى اجتماع عاجل بعد اكتشاف مؤامرة إيرانية ضد البحرين عام 1982.

في ذلك الاجتماع الأول لوزراء الدفاع في مجلس التعاون بدأت أتعرف شخصيا على عناصر القيادة لدى الأمير سلطان، فعندما التقى وزراء الدفاع في نادي الضباط في الرياض، كان الوفد السعودي، بناء على توجيهات من الأمير سلطان، قد أعد ورقة عمل وجدول أعمال بالتشاور مع الأمين العام يليق بالمناسبة وبالخطورة التي قد تنفجر في المنطقة.

يتكون مجلس الدفاع في دول المجلس من وزراء الدفاع، لكنهم جميعا مشروع ملك ومشروع قيادة وإمارة، كان الأمير سلطان يحمل معه مؤشرات مكانته في المملكة، والشيخ حمد بن خليفة ولي عهد قطر ووزير دفاعها مشروع حاكم قادم، وكذلك الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، ولي العهد ووزير الدفاع في البحرين، ولا يختلف الوضع مع الشيخ محمد بن راشد وزير الدفاع في الإمارات، والثلاثة أصبحوا حكاما لبلدانهم، والمرحوم السيد فهد بن تيمور، عم السلطان ووزير دفاع السلطنة، والمرحوم الشيخ سالم صباح السالم، وزير دفاع الكويت الواعد في مستقبل بلده.

كانت مهمتي كأمين عام مع وزراء الدفاع حساسة نظرا لضرورات الحذر في التعامل معهم، فمن مسؤولية الأمين العام تقديم جدول الأعمال وشرحه وتقديم خلفية مقنعة لكل موضوع، وكنت أجد الملاذ الدائم في حضور الأمير سلطان، فلا اجتماع لوزراء الدفاع دون قيادة من الأمير، فاقتراح درع الجزيرة من منبع فكره، وقاعدة الملك خالد في الحفر ثمار خططه، حيث تطورت قوة درع الجزيرة في تلك القاعدة.

إذا اشتد الخلاف بين الوزراء حول التفسيرات، كان الأمير سلطان مصدر إزالته، وإذا احتد النقاش، عالجه بالحكمة الواعية، وإذا تأثرت القرارات بالخلافات بين الدول، جاء الأمير سلطان بمخرج لها، وإذا بالغ أحدهم بنقد الأمين العام، منحه الأمير حمايته.

وكم من خلافات شهدتها لقاءات وزراء الدفاع طوقها الأمير بسعة صدر وبحكمة من عصارة تجاربه.

نجح وزراء الدفاع في تطوير ملفات الشؤون العسكرية والأمنية لأن وزراء الدفاع وضعوا ثقتهم بالأمير الناضج صاحب الحضور المميز، واستمعوا إلى مقترحاته، واطمأنوا إلى نواياه.

كان يبدي بعض الملاحظات عن انفعالات تحدث، لكنه دائما يقرنها بأعذار وتسامح قائلا: «إن الكل يريد الخير والكل على حق»، ملتزما كرئيس للاجتماع بحتمية النجاح، وناصحا الأمانة العامة بمراعاة الدقة والوضوح.

كان الأمير سلطان كريما، سخيا، مستجيبا لمن يحتاجه، مرفقا السخاء بابتسامات محببة.

في إحدى المرات اتصلت بي إحدى الأسر الكويتية المعروفة حول مريضة من الأسرة تعاني من السرطان، وقد نصحها بعض الأطباء بحليب الإبل، فاستنجدت بسمو الأمير سلطان الذي فتح مزرعته شمال المملكة للأسرة وللمريضة، حيث توافرت كل التسهيلات، وظل يسأل عنها بعد أن عادت إلى منزلها في الكويت.

وأعرف الكثير عن عطائه الهادئ لكل من يطرق الباب، كان يعطي بهدوء، ويمنح بإيمان، ويخدم المستحق بتواضع القادر، كان، باختصار، سلطان المآثر الإنسانية.

أعطاه الله سبحانه وتعالى الكثير من النعم، ولكن أكبر عطاء منحه الخالق هو منظومة الأدب الجم، يأسر الناس بلسانه ويملكهم بكرمه، يجذبهم لقيمه، ويريحهم لجاذبيته، وينصحهم بحكمته، ويحبونه لأنه حاز استحقاقات المحبة، ويبايعونه لأنه أهل للحكم، ويريدونه لأنه حاضن لمعيشتهم.

أحب الكويت، وحمل معه همومها، وعانى من محبته الصادقة للمرحوم الشيخ جابر الأحمد عندما كانت الكويت تحت الاحتلال، وتعاطف مع محنة أهلها لكنه سخر كل شيء لأن تعود الكويت إلى أهلها ويعود أميرها إلى منزله في دسمان.

أسس مع سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد علاقة شخصية تتميز بالحميمية والتلقائية الملوكية وترسخت هذه العلاقة في ترابط المملكة والكويت في علاقات راسخة وفي التفاعل المؤثر داخل منظومة مجلس التعاون.

الأمير سلطان جوهرة بأخلاقه وصفاته وعطائه وسماحته، انتقل إلى رحمة الخالق، حاملا معه سجلا إنسانيا خالدا. حياته عطاء، ومسيرته ملحمة، وكل من عليها فان، والعزاء لنا جميعا في عالم العرب والإسلام وفي دنيا الإنسان حيث ما كان..

* الأمين العام الأسبق لمجلس التعاون الخليجي ورئيس المركز الدبلوماسي للدراسات.