ماركس سعيد في الحب تعيس في الانتفاضة

TT

من التخمة إلى سوء التغذية! أنفقت الرأسمالية ما في الجيب. فلم يأت ما في الغيب. بعد حرب الأربعينات، هرولت الرأسمالية من الخنادق إلى المصانع. عملت. كدحت. اغتنت. فعاشت في بحبوحة مرفهة لذيذة.

أدت تخمة السبعينات إلى عسر في الهضم. باتت الرأسمالية تنفق أكثر مما تكسب. لم تعد الطبقة الوسطي المزدهرة قادرة على الاحتفاظ بضمانات العمل. الصحة. التقاعد... التي انتزعتها بواسطة الدولة، من أصحاب العمل.

نفض رجال البزنس الغبار عن الرأسمالية. جاءوا بتاتشر من البقالية، وبريغان من السينما، فأعلنا الحرب على الدولة. وعلى النقابة. بعد اختراع الكومبيوتر، انفصل عمال المكاتب عن عمال المصانع. باتت النقابة نمرا من ورق. يزأر في الشارع. لكن لا يقتل. ولا يجرح.

أطلقت الرأسمالية رصاصة الرحمة على الماركسية المترهلة. من بريجنيف. إلى آندروبوف، احتفظ رجال البيروقراط والتكنوقراط الحمر بالماركسية في تابوت لينين الزجاجي. ظنوا أن ضمانات التقاعد. والعمل، كافية لإرضاء الطبقة الوسطى الوليدة من رحم البروليتاريا التي تقهقرت مع تحسن مستوى المعيشة.

مع اختفاء بعبع الآيديولوجيا الذي هدد الرأسمالية بالفناء، أطلقت الرأسمالية، في السنوات العشرين الأخيرة، العنان لرجال البزنس والمصارف. تم اغتيال ثقافة العمل الجاد والإنتاج، بإشاعة ثقافة الربح السهل في كازينو الرأسمالية (البورصة). فقد تحولت البورصات العالمية من بيوتات لتمويل المشروع الاقتصادي الحر، إلى مصائد لأرباح وهمية.

حتى في روسيا، تحول بوريس يلتسين من قوميسار مخضرم إلى رجل سياسة وبزنس. استولت الطغمة الاقتصادية (معظمها من اليهود) على مصانع وشركات الدولة، بقروض سهلة من المصارف الغربية. استعاد بوتين أملاك الدولة، لكن بعدما نجحت الطغمة في تهريب 150 مليار دولار. تم تبييضها بغسلها في المصارف الرأسمالية. عندما لاحقها بوتين، فرت الطغمة إلى إسرائيل وأوروبا وأميركا. وردت بحملة إعلامية شعواء عليه، متهمة إياه بتشويه الديمقراطية.

في هذه الأثناء، لم تنفع ليبرالية كلينتون وبلير وشرويدر، في حفظ التوازن بين اقتصاد السوق ومكاسب الطبقة الوسطى، من دون إزعاج رجال البزنس والشركات. جاءت البورجوازية المالية بدابليو بوش، لحفظ مكاسب الأغنياء، بتخفيض الضرائب.

مع ولادة القرن الحادي والعشرين، ترعرعت طبقة مستغلة جديدة، في حي المال (وول ستريت). كافأ مديرو المصارف وسماسرتها أنفسهم بمكافآت خيالية، فتبخرت الأرباح. غامروا بأموال المودعين والمستثمرين، فتبخرت الأرصدة والودائع.

في عام 2008، لم يعد بالإمكان إخفاء الإفلاس المالي، والتستر على سوء التغذية. ولأن «المصرف الكبير لا يمكن أن يفلس»، فقد أنقذ أوباما المصارف من كيس دافعي الضرائب. سدد ديون المصارف بـ700 مليار دولار. وترك 700 ألف أسرة مفلسة مهددة بالطرد من بيوتها. قبضت المصارف المال. وامتنعت عن إقراض المفلسين والمستهلكين الصغار، لتحريك الاقتصاد. واستأنف المديرون والسماسرة قبض المكافآت، بلا خوف من الرقابة.

ما الحل؟ لا حل. فوراء كل جمود اقتصادي أزمة اجتماعية. فرانلكن روزفلت وجد حلا عبقريا لـ«كريزة» الثلاثينات المخيفة. فقد ساق ملايين الشباب العاطلين إلى «العمل»، محاربين في خنادق الحرب العالمية (1940). أفلست حروب بوش أميركا. كلفت حروب العراق وأفغانستان اقتصاد وريثه أوباما 3.7 تريليون دولار.

أمام عجز أوباما. ساركوزي. ميركل، عن إنقاذ الرأسمالية، فقد المفلسون الثقة بها. استلهم هؤلاء المقهورون المحبطون من؟ آه. استلهموا الانتفاضة العربية. في النزول إلى الشوارع. في المبيت تحت الخيام في «ميدان التحرير»، في نيويورك. شيكاغو. سان فرانسيسكو. لندن. أثينا. مدريد. برلين. فرانكفورت...

«احتلوا وول ستريت». نداء عبقري. كأن الانتفاضة العالمية لم تبلغ بعد مستوى الحشد الجماهيري في تونس. القاهرة. بنغازي. طرابلس، بما يكفي للزحف، واحتلال أولئك المديرين والسماسرة القابعين، في الطبقات العليا من ناطحات السحاب والمال.

من القادر على الوصول إلى هؤلاء؟ كارل ماركس وحده القادر. لكن ليس مسموحا له بمغادرة مقبرة «هاي غيت» في لندن. السبب لأن الرأسمالية لا تؤمن بفلسفته في تدخل الدولة. في تأميم المصارف المفلسة، وشركات الإنتاج. لأن «الدولة مدير أعمال ورجل بزنس فاشل».

بل ماركس تعيس في حواره مع الانتفاضة العالمية. بروليتاريا الانتفاضة لا تريد تقديم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، على الحرية السياسية. ترفض إلحاحه على الثورة الدموية. مسكين ماركس! فقد غرست منافسته الاشتراكية ثقافة النضال السلمي في الشارع. إلى إشعار آخر، فماركس مشروع مؤجل إلى مستقبل غامض. المحبطون لا يريدون الآن نهش وسحل أي قذافي آخر يقترحه ماركس.

ماركس يسخر من انتفاضة شبابية بلا آيديولوجيا. بلا «مانيفستو» محدد. مجرد احتجاج أجوف. مجرد تجمع للتعبير عن قضايا مبعثرة. انتفاضة بلا قيادة. بلا حزب قائد. بلا طليعة ثورية. كل ذلك، في رأيه، نوع من العبث غير المجدي، في العمل الثوري.

في تعاسته السياسية، فالعزاء الوحيد لماركس يتجلى في أمرين اثنين: السعادة في الحب. وفلسفة التفسير الاجتماعي. حتى فلاسفة الرأسمالية ومعلقو السياسة يستخدمون التفسير الماركسي للحراك السياسي والاجتماعي. ويختلفون معها في رهانها على طبقة البروليتاريا، بدلا من الطبقة الوسطى الأكثر وعيا. وثقافة. وحيوية.

ماركس في الحب كان سعيدا! وفرت له زوجته جيني الأرستقراطية الجميلة بيتا مريحا له، من صخب بيئته الثورية، وإحباط حربه الفاشلة ضد إمبراطوريات القرن التاسع عشر الديكتاتورية. أحبت جيني الفتى كارل حبا جنونيا. ظل الحب حارا بعد الزواج. رضيت جيني بالقسمة والنصيب. لم تتحمس لثورته. لكن رافقته في منافيه، إلى أن استقر بهما الحال في منفاهما الأبدي: لندن.

لم ينغص سعادة ماركس سوى موت أطفال له. لم يكن يجد في جيبه ما يكفي لشراء أكفان لهم. تذكر جيني في يومياتها ثورته عندما ماتت فرانزيسكا وماش: «كان لدي دائما نصيبي من الحظ السيئ. لكني بت الآن أعرف ماذا تعني التعاسة».

مع ذلك، كان ماركس اجتماعيا يجيد الدعابة والثرثرة. كان محبا للحياة المرفهة التي حرم منها. كان يراقص جيني برشاقة: «أوه كارل... كم أنا سعيدة. لقد استمتعت بكل ساعة قضيتها معك». بل كان جذابا للنساء، بحيث خان جيني! أنجب طفلا غير شرعي (فريدي) من خادمته وصديقتها «هيلين ديماث». واضطر صديقه الوفي إنجلز إلى تبنيه، والادعاء أمام جيني بأنه ابنه.

ماتت جيني في عام 1881. لحق بها ماركس بعد عامين. في رقدتها الأبدية، أوصت بأن يكون قبرها المتواضع إلى جانب قبره. في وصيته ترك إنجلز لـ«فريدي» وابنتي ماركس «تاسي» و«لورا» نحو ما يعادل خمسة ملايين دولار. لكن شؤم الماركسية لحق بالابنتين المناضلتين. فقد انتحرتا الواحدة بعد الأخرى!

عاش فريدي ليحظى في مقر إقامته بفرنسا بزيارة راكب دراجة اسمه «لينين». كان لينين أسعد حظا من ماركس. فقد نقلته المخابرات الألمانية في قطار متسلل إلى روسيا، ليخيب أمل ماركس. فقد كان يحلم بثورة في أوروبا الرأسمالية. وليس في أوروبا الشرقية.