سلطان.. والروح السعودية

TT

من المرات النادرة التي يكتب فيها كلام رثائي وذكريات غزيرة عن شخص رحل عن دنيانا بهذه الكثافة والحرارة.

رحل ولي العهد السعودي، الأمير البشوش، المفرط السخاء، سلطان بن عبد العزيز.

الرجل، بغض النظر عن موقعه الكبير كولي لعهد السعودية، هو بحد ذاته تاريخ وقصة كبرى من قصص التأسيس في هذا البلد.

لولا أن التقاليد جرت في البيت السعودي على النظر للأمام، وترك الآخرين يتحدثون عن الملحمة السعودية في تفاصيلها وصعوباتها، بحيث لا يوجد لدينا فعلا أدب مذكرات وذكريات، لكان ما سيقوله سلطان بن عبد العزيز عن التاريخ السياسي والإداري والاجتماعي والعسكري لهذا البلد من أعظم وأغزر القصص التي تروى للأجيال الجديدة، ولكل مهتم بالشأن السعودي.

ميزة الأمير سلطان الأولى في نظري، هي أنه يعتبر من الآباء المؤسسين للسعودية، تولى أول منصب له في الحكومة وهو في ريعان الشباب، حيث ولاه والده الملك عبد العزيز إمارة الرياض سنة 1366 هجرية، ومكث في هذا المنصب عدة سنوات في حياة أبيه، حيث ترك المنصب قبيل السنة الأخيرة من حياة والده الذي توفي 1373 هجرية. ومن حينها وهو يتنقل من موقع إلى موقع ومن مجال إلى مجال، والبلد ينشئ معجزة في الرمال..

لقد كان سلطان يكتنز القصة الإدارية والسياسية الكاملة لهذا البلد، ولكنه كان دوما على رأس العمل، في الحاضر، لا الماضي.

حينما حدثني أحد «أقرب» الناس للأمير كيف روى له الراحل حكاية توليه لإمارة الرياض وكيف خاطبه والده الملك عبد العزيز وكيف وصاه، وكيف شق الأمر على الأمير الشاب، تخيلت الرياض في ذلك الوقت وتخيلت مجلس عبد العزيز... فعرفت كيف أن بناء هذا البلد كان قصة من أعظم القصص الملحمية فعلا.

مزايا سلطان بن عبد العزيز كثيرة، وقد قال عنه شقيقه الأمير نايف في تقديمه للكتاب الخاص الذي أصدرته جريدة «الجزيرة» السعودية عنه، إن الأمير سلطان كان بمثابة المعلم والأستاذ لي في العمل الحكومي.

الناس في السعودية أفاضت، وحق لها، في الحديث عن الجانب الخيري في شخصية الراحل، وكيف كان يهتز للعطاء والبذل، مثلما تهتز أغصان الشجر. لكن في نظري هناك جوانب لا تقل أهمية في شخص الراحل، بل هي أهم في نظري، وهي التاريخ الإداري والسياسي، ومهارة سلطان الأميز في التفاوض والوصول دوما لنقطة اتفاق، وكما أشار الأمين العام الأسبق لمجلس التعاون الخليجي عبد الله بشارة في مقاله عن الراحل بهذه الجريدة، فإن الأمير سلطان هو الذي قاد بحنكة اجتماع مجلس وزراء الدفاع الخليجي 1982 وأطلق فكرة قوات «درع الجزيرة» التي كان لها في مقبل الأيام دور، وأي دور... !

ما قيل عن سلطان هو أقل القليل، وكم كانت أمنيتي أن تتحول مناسبة رحيل سلطان إلى فرصة لتعليم من لا يعلم، وتذكير من نسي، بجانب من تاريخ هذا البلد وقصة التأسيس، فرحيل رجل بقيمة سلطان بن عبد العزيز ليس حدثا عاديا، وليس مجرد مناسبة للرثاء وترديد كلمات التعازي المعتادة، مع أهميتها الإنسانية، بل هي مناسبة سانحة لتعزيز الانتماء للبلد، وتقديم مادة ثقافية تنير للمتابع خفايا الزوايا، حتى ندرك كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه من استقرار في خضم هذه الأمواج المتلاطمة... القصة «لم تأت بالساهل»... كما يقال!

بكل حال، وكما سبق القول في مناسبة مختلفة، فإن حدث رحيل هذا الرجل المؤسس، الأمير سلطان بن عبد العزيز، وما يتبع ذلك من ترتيب وضع ولاية العهد؛ لحظة حيوية في مسيرة البلاد، وفي ظني أن ذلك سيطلق دورة «فضول إيجابي»، وزخم فكر سياسي جديد لدى المختصين والعموم، حول مفاهيم مثل: البيعة، أهل الحل والعقد، والشورى.

ستطلق دورة فضول إيجابي أيضا حول تاريخ البلاد السياسي، وحول قصة الملك عبد العزيز، وحول مستقبل البلاد أيضا، وحول سر الاستقرار والسلم في هذه البلاد.

البلاد ليست جامدة، وخلال الأشهر الماضية فقط رأينا كيف أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز عدة قرارات تتناول وضع مجلس الشورى والمجالس البلدية، وإدخال المرأة في آلية القرار السياسي والتشاور حوله، وقبل ذلك كان الإنجاز الدستوري الأكبر للملك عبد الله وهو إطلاق نظام هيئة البيعة لترتيب عملية انتقال السلطة داخل بيت الحكم، من أبناء الملك عبد العزيز، كلها خطوات تصب، في النهاية، في تطوير الهيكل السياسي والإداري في البلد، ولكن حسب إيقاع السعوديين، وليس حسب إيقاعات خارجية أو حتى داخلية، من قلة إما لا تعرف طبيعة المجتمع أو لا يهمها أن تعرف… فالتحول نحو المزيد من المشاركة السياسية والمحلية، بشكل تدريجي، دون سرعة ضارة، هو المطلوب، وفي نظري: الاستقرار والأمن مع شيء من التنمية المتزايدة على فترات، خير من أهازيج الديمقراطية وربما الفوضى كما نرى هنا وهناك.

خير لنا أن نملك شروط النجاح في إجراء ديمقراطية، بدل أن نمارسها من دون نجاح، والأنكى أن نمارسها ثم نلحق الضرر بأنفسنا بل وبها، عبر تهديم ما بني من إنجازات، وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن التطور البطيء، فإنه أفضل من السرعة المهلكة.

وكما قال المفكر جورج طرابيشي في كتابه (هرطقات عن الديمقراطية): «الديمقراطية هي بالأساس ظاهرة مجتمعية، والمجتمع هو في المقام الأول نسيج من العقليات». وقال طرابيشي أيضا: «الديمقراطية بذرة برسم الزرع وليست ثمرة برسم القطف».

بالعودة إلى ما بدأنا به، فإن الأمير سلطان كان يمثل فعلا «روح» التأسيس، من خلال خطابه التقاربي، ونزعته نحو التسامح، وتكبير مساحات المشترك وتقليل هوامش الاختلافات، فعل ذلك مع الجميع، الأقربين والأبعدين، وكان دوما رجل المفاوضات الناجح. وهو أيضا رجل الصفح، والترفع عن الثارات الشخصية، كان أيضا يمثل النهج العجيب للحاكم السعودي في المزج بين المحافظة والانفتاح، الحزم واللين، باختصار كان ممثلا لروح عبد العزيز المؤسس. من هذا المنطلق كان - كما يروي عارفوه ومجالسوه - متحمسا ومساندا لكل توجهات أخيه ومليكه عبد الله بن عبد العزيز نحو الإصلاح والانفتاح. ويطلب الرأي من أهل الرأي من أجل التطوير السياسي.

مرة أخرى، بمناسبة رحيل ولي العهد، لتكن هذه الأيام فرصة لإعادة تثقيف أنفسنا والناس بملحمة البناء والتأسيس بكل صعوباتها.

لنعد سرد الحكاية من الأول... ورحم الله سلطان.

[email protected]