التحول إلى الديمقراطية ممكنا

TT

لقد قدمت الثورات الشعبية وحركات الإصلاح التي اجتاحت البلاد العربية ردا بالإيجاب عن سؤال شهير يتساءل عما إذا كان العالم العربي مستعدا للديمقراطية أم لا. وبينما لا يزال هناك العديد من التحديات التي تواجه التحول إلى الديمقراطية، فإن السؤال الأكثر إلحاحا الآن هو ما إذا كانت أوروبا والولايات المتحدة وبقية دول العالم على استعداد لظهور الديمقراطية في العالم العربي.

بالطبع لا يقتصر تحقيق الديمقراطية على عقد انتخابات، رغم أنها تعد تحديا باعتراف الجميع. ومع ذلك فمن المقرر أن تعقد الانتخابات في تونس في 23 أكتوبر (تشرين الأول) - (عقدت الانتخابات بمشاركة شعبية هائلة - المحرر) ثم ستتبعها مصر في نوفمبر (تشرين الثاني) لانتخاب برلمان يقوم بصياغة دستور جديد. وتعد هذه مهمة صعبة نظرا لحقيقة العقود التي مضت في ظل حكم استبدادي قام بتقويض المكونات الأساسية لمجتمع مدني وطبقة وسطى فعالة في الدول العربية. وقد كشفت الأحداث الأخيرة في القاهرة والتي أدت إلى مقتل أكثر من 24 شخصا، أغلبهم من الأقباط المصريين، عن الطبيعة الهشة لعملية التحول إلى الديمقراطية.

وبالطبع تعد الثورات أحداثا استثنائية تستدعي حدوث فترات اضطراب بعدها، خاصة بعد تاريخ تجمد في أغلب بلاد العالم العربي خلال القرن الماضي، إلا أن هناك حركة تعبئة نشطة تجتاح المنطقة بأكملها. كما يعد المد والجزر الحالي للثورات العربية في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا وغيرها من المناطق انعكاسا للحركة متعددة الاتجاهات للتاريخ الجديد.

وهناك شيئان يحدثان في آن واحد وكل منهما له تأثير مباشر على مستقبل الثورات العربية. أولا، مجرى التاريخ يتحول من إطار ثنائي الأقطاب ومركز في أوروبا ساد في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى نظام عالمي متعدد المراكز. وتساعد تجربة الحداثات المتعددة على تمكين مجتمعات العالم من تطوير نماذج بديلة للتنمية والسياسات والتدخل المدني دون الاعتماد بالضرورة على مصدر واحد. كما تتحدى القوى المتناسقة مثل الحركات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني كلا من الدول الوطنية التقليدية والمؤسسات متعددة الجنسيات. وقد منحت الموارد الطبيعية والسكان الشباب والتكامل الإقليمي وغيرها من المقومات الاستراتيجية الدول العربية والإسلامية ميزة نسبية في عالم تزداد فيه العولمة ويعتمد على بعضه البعض.

وثانيا، وتيرة التاريخ تتسارع وتشكل تحديات جديدة وغير متوقعة علاوة على قيامها بتشكيل مجالات جديدة. لقد أعلنت الثورات العربية عن عهد جديد من «تأثير الفراشة»، الذي بموجبه يكون من المتوقع حدوث تطور مفاجئ وغير متوقع في جميع أنحاء المنطقة، لن يستطيع مركز نفوذ واحد التحكم فيه. وفي عصر الاتصال الفوري، فإن العوامل السياسية والاجتماعية الجديدة في العالم العربي تستفيد من السرعة الجديدة لبناء نظام ديمقراطي يقوم على العدالة وسيادة القانون والتعددية. وتحدث الآن «الصحوة العربية» التي تحدث عنها جورج حبيب أنطونيوس بنبرة أسف عام 1938 على نحو جاد ومع شعور بالانتصار.

لقد دمرت الثورات العربية الخرافات التي كانت تروى عن العرب، والتي كانت تشير إلى أن العرب لا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم، وأنهم سعداء في ظل نظام ديكتاتوري مستبد، وأنهم عاطفيون أكثر منهم واقعيين، إلى آخر تلك الخرافات التي تحطمت جميعها على أرض ميدان التحرير وغيره العديد من «ميادين الحرية» في جميع أنحاء العالم العربي. لقد أكد العرب، كغيرهم من شعوب العالم، أنهم يرفضون الاستبداد ويطالبون بالعدالة والمساواة وسيادة القانون ومستوى معيشة مقبول، وهي حقيقة يرفض الاعتراف بها من يريد أن يرى المجتمع العربي مستعبدا وليس ذا سلطان. وبعد رفض عقود من القمع والفساد والشعور باللامبالاة، يظهر شرق أوسط جديد على أسس العدالة والمساواة وحكم القانون والشفافية والمساءلة. ومن المؤكد أن ذلك سيغير من الساحة السياسية داخل المنطقة. كما أنه يعني هيكلة جديدة للعلاقات بين العالم العربي والغرب مبنية على المساواة والنزاهة والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. لقد ميز عدم التوازن السياسي والاقتصادي العلاقات العربية - الغربية لعقود، ولكنه لم يعد سمة مستمرة. لا يمكن لحكومة عربية أو غربية تبرير ذلك باسم الاستقرار أو الأمن.

توجد تحديات كثيرة تواجه الثورات العربية، ولكن من الممكن التعامل معها. ويجب أن تلي الثورات السياسية في تونس ومصر وليبيا، ثورات اقتصادية ومؤسساتية. وثمة حاجة إلى برنامج مهم للانتعاش الاقتصادي بهدف خلق وظائف وبناء بنية تحتية والاستثمار في البحث والتنمية وتنويع الإنتاج وجذب استثمارات خارجية وسياسية - ويكون ذلك برنامج طوارئ مشابها لما نفذته الحكومة التركية عام 2002 بعد أزمتين اقتصاديتين مدمرتين في 1999 و2001. وكما الحال مع الأماكن الأخرى، تحتاج مصر وتونس وليبيا إلى طبقة وسطى قوية ودعم هياكل المجتمع المدني لتكون لديهم نظم ديمقراطية فاعلة.

وعلى الجبهة السياسية، توجد حاجة ملحة لسياسات تحظى بإجماع وطني. فبعد عقود من الحكم السلطوي والقمع والتمزيق، شكلت الأحزاب السياسية في العالم العربي «عقلية حصار» تعلموا بها فن المعارضة ولكنهم يفتقرون إلى القدرة على الحكم. ويوجد تحد مهم يتمثل في بناء ساحة سياسية تحظى بالإجماع والعمل مع تشكيلات مختلفة سياسيا وآيديولوجيا. وفيما تتجه مصر بعد تونس إلى الانتخابات، يعد نجاحهما أمرا مهما لباقي العالم العربي، لأنهم سيثبتون أنه من الممكن أن يكون العالم العربي حرا ديمقراطيا تعدديا شفافا ومزدهرا اقتصاديا. إنها فرصة تاريخية لا يمكنهم تحمل تفويتها.

* مستشار رئيس الوزراء التركي