مصرع القذافي!

TT

فصل جديد من فصول «الربيع العربي» انتهى نهاية دموية ووحشية. وعلى الرغم من أنني لم أحمل ودا قط للعقيد القذافي فكريا ولا شخصيا، فإن خوفي على صورة الأمة كان أكبر. فحينما جاءت لحظة الاختبار لم ترتفع إلى مستوى المسؤولية الحضارية، وأتت بأفعال التي لا توجد في الشيم العربية، ولا في الأحكام الشرعية، ولا في القيم الإسلامية. فلا يوجد في كل ما سبق ما يسوغ أو يسمح بقتل أسير، ولا فيها ما يمنح لأحد التمثيل بجثة رجل مهما كان شريرا، فقد باتت في يد خالقها. جاء الخبر بالصوت والصورة وأنا في الولايات المتحدة، ولما لم يعلق أحد على ما كان مذاعا، أدركت أن من سمع وشاهد كان ذلك هو ما يتوقعه تماما من عرب. ولكن المعضلة لم تكن فقط في «الفضيحة»، ولكنها كانت نقطة سوداء في ثوب أبيض لثورة الشعب الليبي، الذي ثار على طاغية امتزج فيه الطغيان بالجنون بعبادة الذات.

مضت شهور ثمانية ما بين خطاب القذافي الشهير، الذي وصف فيه الشعب الليبي بـ«الجرذان» الذين سوف يجري وراءهم حيا بعد حي، وشارعا بعد شارع، و«زنجة بعد زنجة». والأرجح أن العقيد و«القائد» أيضا كان ينوي إجراء سلسلة من المذابح للشعب الليبي إذا ما قدر له «النصر» في معركة البقاء. ولكن هذا القدر لم يكن مقدرا بإرادة الله، ثم بإرادة الشعب الليبي وحلف الأطلنطي، الذي دخل المعركة مؤيدا من الجامعة العربية بعد أن تخلت الدول العربية عن خجلها المعروف من التماس مع كل ما هو أميركي، الذي يتبعه عادة كل ما هو إسرائيلي.

وإذا كان هناك اكتشاف ما على العالم العربي أن يكتشفه من هذه المعركة، فهو أن العالم أكثر تعقيدا بكثير من مجرد اختصاره في الصراع العربي - الإسرائيلي. والحقيقة أن هذه لم تكن التجربة الأولى، فقد طرح الموضوع أثناء حرب البوسنة، كما طرح في حرب كوسوفو؛ حيث ثار التساؤل عما إذا كان جائزا، فضلا عن أن يكون واجبا، تأييد حلف الأطلنطي لإنقاذ شعب مسلم.

ولماذا نذهب بعيدا؛ فقد ثار نفس التساؤل بعد غزو صدام حسين للكويت، حينما طرح السؤال عما إذا كان واجبا التحالف مع دول منتمية لحلف الأطلنطي لإنقاذ دولة عربية من مخالب رئيس عربي؟ مثل هذه التساؤلات لم تعد مطروحة، وربما كان ذلك هو «الربيع العربي» الحقيقي، لأن الأمة لم تعد تسير مغمضة العينين، وباتت تستطيع، بالحكمة والتقدير، أن تميز بين المواقف، وتزن ما بين الأمور.

ولكن مصرع القذافي فتح فصلا آخر في دول عربية أخرى ما زالت تناضل بالعنف اتجاه التاريخ الذي انطلق لا يلوي على شيء، حتى لم يعد هناك فارق بين دولة عربية وأخرى إلا في الوقت الذي ينتظر فيه نشوب الثورة، والزمن الذي تستغرقه الثورة، سواء كانت سلمية أو قرر ولاة الأمر من الحكام أن تكون دموية، كما جرى الحال في ليبيا. وربما كان ما يحدد الزمن والثمن هو تلك السلسة من المواقف التي تتخذها دولة عربية بعد أخرى، حيث إن الشائع دائما هو «الإنكار» أن ما جرى في بلدان عربية أخرى يمكن أن يحدث للدولة العربية المعنية.

المدهش أن كل الدول العربية تعيش ظروفا متشابهة من الناحية البنائية، ففيها تغيرات ديموغرافية تجعل «الشباب» شريحة اجتماعية حاضرة بالسن والعلم والمعرفة بالعالم، ومن ثم الغضب على الفجوة القائمة بين الدنيا وبيننا.

كذلك فإن نمو الطبقة الوسطى الذي جرى لأسباب متعددة جعل الجماعات الحاكمة لا تسيطر وحدها على الثروة، ولكنها في الوقت ذاته تحتكر السلطة، حتى وقد طال العمر بها حتى باتت تنتمي إلى دنيا تخطاها الزمن. الغريب بعد ذلك أنها بعد الإنكار وتجاهل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الجارية، فإنها، وهي تستند تماما إلى قوى الأمن والعسكر، لا تعرف أنها تغيرت هي الأخرى، فإذا ما جاءت اللحظة الحاسمة فإنها إما تنفصل كليا عن الحكم وتسهم في تغيير النظام، كما جرى في تونس ومصر، أو جزئيا فتنشب حرب أهلية ضروس، كما حدث في ليبيا واليمن، وربما كان ذلك هو الطريق الذي تسير إليه سوريا.

«الربيع العربي» سائر مثل القطار السريع، وربما لا يعرف أحد مستقبله، ومن الجائز أنه لن ينتهي إلى زهور أو رياحين، فالشاهد أن المرحلة الانتقالية لا تقل ألما عن الثورة.

ولكن ما نعرفه أنه لم تعد هناك في دولة عربية ما يعد بالاستعداد للقبول بما هو قائم؛ سواء من أفراد أو نظم. ومع اختلاف الظروف بين دولة وأخرى، فإن هذا الاختلاف يؤكد على اختلاف المسار، ولكنه لا ينفي الحاجة الماسة إلى التغيير، والتغيير الجذري الذي تراه العين، وتسمعه الأذن، ويحسه الوجدان.

وهناك تعبير ذائع باللغة الإنجليزية، وهو أنه لكي توقف التغيير أو تتحكم في مساره فإن عليك أن تسبقه بجرعة أكبر، أو أن تكون أسرع من المنحنى الذي يسير فيه. هذا القول يتحدى التغييرات الجزئية، أو عمليات التجميل التي تجري هنا أو هناك، وإنما جوهره يعنى نهاية ما هو قائم وبداية ما هو جديد.

ومنذ فترة قصيرة، استمعت إلى شخصية عربية بارزة يتحدث عن الأحوال في بلاده؛ وكان الحديث منطبقا على النمط الذائع، فهناك أولا الإنكار بأن الدولة التي ينتمي إليها مثل الدول التي ثارت، على الرغم من اعترافه أن المظاهرات والمسيرات لم تتوقف منذ فترة، ولكنه تخلص من وجودها بأنها كانت «بضعة مئات» وأحيانا «بضعة آلاف». وعندما يضاف الإنكار إلى أن الأحوال ليست متشابهة، لأن الإصلاح يجري بالفعل حيث جرت تغييرات دستورية «عميقة».

وعندما تسأل عن مدى عمق هذه التغييرات، وإلى أي حد تقيد سلطات الحاكم التنفيذية، فإنك لا تجد إجابة، فالرئيس أو الملك لا يزال يمتلك سلطات واسعة، حتى لو تنازل عن أمر هنا أو هناك.

مثل ذلك لا يتعدى المنحنى، فالجمهوريات ما لم تعرف كيف تعيش من دون قوانين للطوارئ، مع فصل السلطات، والرقابة على الحكم، فإن التغيير لا يعني الكثير.

ما يجري الآن في العالم العربي ليس هو ما جرى في الخمسينات، حينما تم استبدال طاغية ملكي بآخر جمهوري تحدث عن «الشعب» و«الجماهير»، ولكنها تغييرات تراكمت عبر العقود السابقة التي خلقت كتلة حرجة جديدة إلى ساحة السياسة، ولم يعد بقدرة أحد إخراجها منها. وكل ما هو ممكن، ومطلوب أن يتاح لهم الفرصة للمشاركة في السلطة، وفي القرار. وربما لا يحدث ذلك اليوم في بلد عربي أو آخر، ولكنه سوف يأتي غدا بكل تأكيد.