الغنوشي «العلماني» وبورقيبة «الواعظ»

TT

في 27 أغسطس (آب) 1987 فتحت محكمة أمن الدولة بتونس أبوابها لمحاكمة 90 من المحسوبين على الاتجاه الإسلامي بتهمة محاولة قلب نظام الحكم والتعاون مع دولة أجنبية (إيران). صدرت الأحكام بحق 35 من الحاضرين، حيث تنوعت ما بين الإعدام والمؤبد، وكان نصيب راشد الغنوشي الأشغال الشاقة مدى الحياة. لم ترضِ الأحكام الرئيس بورقيبة، حيث وصف الأحكام أمام وزير داخليته بأنها «مخففة»، ويروي آندرو بورويس الحادثة قائلا: «لقد أخبره مستشاروه بأنه لا أساس قانونيا لإعادة المحاكمة. بيد أن بورقيبة غادر الغرفة مطالبا برأس الغنوشي» («تونس الحديثة». 1998). ربما لم يدر بخلد بورقيبة أن يخرج ذلك الشيخ الشاب إلى المنفى لأكثر من 25 عاما ليعود بعدها إلى تونس منتصرا، وليحقق حزبه الإسلامي – المحظور - المركز الأول في أول انتخابات بعد رحيل زين العابدين بن علي. لقد خاض الإسلاميون في تونس انتخابات 1989، وادعوا حينها أنهم فازوا بما يقارب الـ40 في المائة من الأصوات قبل أن ينقلب النظام على النتائج. اليوم، يستعيد حزب النهضة حقه الانتخابي، والمثير للانتباه أن يحقق النسبة ذاتها التي استحقها قبل ربع قرن من الزمن. فماذا تغير بين 1989 و2011؟ يجادل المبشرون بـ«الربيع العربي» بأننا إزاء ثورات شعبية غير مؤدلجة، وأن الأكثرية الشعبية في بلدان «الربيع العربي» قد سئموا من تهديدات الأنظمة القمعية لهم باللااستقرار أو ويلات الحكم الإسلاموي، وعليه، فإننا موعودون بمرحلة جديدة تتم فيها إشاعة روح المواطنة والمشاركة السياسية بين الأطياف كافة؛ السياسية والآيديولوجية، بمن في ذلك الإسلاميون، بل ويذهب البعض إلى أن أحداث العام ستفرض على الإسلاميين تحديدا إجراء تغيير سلوكي وفكري يتواءم مع المرحلة الجديدة، ولكن هل تغير الإسلاميون فعلا خلال العقود الماضية؟ أم إننا نشهد تغيرا في التكتيكات السياسية والوسائل لا تغييرا في المفاهيم؟ إن من المثير للانتباه لجوء الإسلاميين في تونس ومصر وليبيا إلى التطمين نفسه والوعود بالمحافظة على العقود والاستثمارات والعقود الخارجية، محاولين بذلك إرسال رسالة تهدئة وثقة للحكومات الغربية بأنهم لن يلجأوا إلى نقض المعاهدات الدولية والعقود التي تربط بلدانهم بالعالم الغربي. ففي الوقت الذي شهدت فيه ليبيا مقتل القذافي بطريقة غير إنسانية، شدد مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الانتقالي، على عزمه (شخصيا) على مراجعة القوانين الليبية لتتوافق مع الشريعة الإسلامية، مؤكدا التزام ليبيا بالمعاهدات والعقود كافة مع العالم الخارجي، وفي الوقت الذي وعد فيه بإلغاء قانون منع تعدد الزوجات، كان نائبه الحقوقي عبد الحفيظ غوقة يكرر التعهد باحترام عقود ليبيا مع الخارج.

أما في تونس، فما إن أعلن عن تقدم حزب النهضة في نتائج الانتخابات، حتى سارع عبد الحميد الجلاصي، عضو المكتب التنفيذي، إلى التصريح للصحافيين الأجانب بأن حزبه سيضمن لشركاء تونس «التجاريين والاقتصاديين» عقودهم، وأن الحزب يتعهد بتقديم كل التسهيلات والضمانات للاستثمار الأجنبي. أما زميله نور الدين البحيري، عضو المكتب السياسي، فقد أكد لوكالة الصحافة الفرنسية أن حزبه ملتزم بـ«إعادة بناء مؤسسات دستورية قائمة على احترام القانون واستقلالية القضاء، واحترام حقوق المرأة، بل وتدعيمها على قاعدة المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن المعتقد والجنس والجهة التي ينتمون إليها».

إذا كان الإسلاميون قد تغيروا بالفعل، فلماذا كل هذا الحماس في التأكيد على حسن النوايا؟! قد يقال بأن ذلك أمر طبيعي نتيجة لعقود من تشويه السمعة، والروايات الكيدية من قبل الأجهزة الأمنية في بعض الدول العربية، ولكن ماذا نصنع بتاريخ مديد من العنف، واستخدام السلاح، والتكفير، وتبرير التطرف الذي مارسه قطاع غير قليل من الإسلاميين على امتداد العالم العربي؟ لعل البعض يرد - وهو محق - بأن الإسلاميين ليسوا تيارا واحدا، وبينهم اختلافات عميقة وتفاصيل دقيقة، ولكن أليس هذا الكلام ينطبق على الأنظمة العربية التي تناصبها تلك الأحزاب والجماعات الأصولية العداء؟! لماذا يقبل أن تدافع الجماعات الدينية عن نفسها وتاريخها، بل وعن أحقيتها في ممارسة العمل السياسي، ثم يراد بعد ذلك أن نصدق رواياتها بخصوص الأنظمة التي سقطت؟ الحقيقة هي أن الإسلاميين في وقت من الأوقات كانوا شركاء تلك الأنظمة التي يدعون فسادها وطغيانها.. ألم يعتبر الإخوان المسلمون في مصر انقلاب 1952 «حركة مباركة»، بل وكانوا شركاء في تبرير قيامها؟! ألم يختطف الملالي الشيعة وأتباعهم من الإسلاميين الثورة في إيران عام 1979؟! ألم يتفق راشد الغنوشي - كما روى هو بنفسه - مع بن علي على بدء مرحلة جديدة والمشاركة في الانتخابات بعد أن أخرج بن علي الآلاف من السجون في 1988؟! ألم يأت الإسلاميون بالرئيس البشير وحكومة «الإنقاذ» في السودان عام 1989؟! أولم يتحالف الزنداني وحزبه مع الرئيس علي عبد الله صالح في الحكم منتصف التسعينات؟! أولم يتصالح الإسلاميون مع بوتفليقة في الجزائر؟! أولم يخرج أعضاء «الجماعة الليبية المقاتلة» بفضل الحوارات التي أجرتها «مؤسسة القذافي الخيرية» مع رموز الحركة الإسلامية مثل عبد الحكيم بلحاج وعلي الصلابي..؟! كيف يمكن أن يصرح راشد الغنوشي بأن حزبه لن يقدم على حظر «البكيني» و«الخمور»، أو أن يتعهد بعدم التدخل في الحريات الشخصية بل ويمتدح «مجلة الأحوال الشخصية»، التي أصدرها بورقيبة في 1956، بوصفها اجتهادا فقهيا؟! من هو العلماني إذن.. الشخص الذي يستخدم الدين ذرائعيا للوصول إلى السلطة، أم المستبد المتنور الذي يريد تحديث الدين؟! مشكلة بعض الحزبيين الإسلاميين هي أن خطابهم مبني على الأوهام، بل وتصوير نزاعهم السياسي مع الأنظمة القائمة - والماضية – على أنه صراع ديني، في حين أنه صراع دنيوي مادي على المناصب والغنائم. إذا كان بعض الإسلاميين مستعد لتقديم كل تلك التنازلات الدينية والسياسية، بل والتعهد باستمرار العقود التجارية والمعاهدات السياسية، فلماذا إذن يريد تصوير عهد بورقيبة أو بن علي على أنها عهود علمانية ظالمة وشريرة إذا كان يرغب في الحفاظ على تراثها القانوني وسياساتها الاقتصادية وعلاقاتها بالخارج! الحقيقة هي أن الاستبداد سواء أكان علمانيا أم إسلاميا هو المشكلة في حد ذاته. إن محاولة بعض الإسلاميين تصوير أنفسهم على أنهم ضحايا للمرحلة السابقة من دون الاعتراف بالمسؤولية فيها نوع من تبرئة الذات، ورواية غير أمينة لعقود من المشاركة والصراع على السلطة مع أنظمة قائمة وسابقة. لقد مارس بعض الإسلاميين العنف، فيما تصالح البعض الآخر مع حكام ديكتاتوريين مثل معمر القذافي وبشار الأسد، وأصبحوا ضيوفا دائمين على موائدهم. لقد كانوا جلادين بقدر ما كانوا ضحايا، وقد وصلوا إلى الحكم مرات عديدة ففشلوا. يروي الوزير التونسي الطاهر بلخوجة في كتابه «بورقيبة: سيرة زعيم» (1999) أن الراحل بورقيبة: «كان يخشى التعصب الديني، ويسعى إلى تمرير روح التسامح والتماشي مع مقتضيات العصر. وكنا أعضاء الحكومة وكبار المسؤولين نجتمع حوله سنويا بمناسبة المولد النبوي الشريف في جامع الصحابي أبي زمعة البلوي (سيدي الصحبي) بالقيروان للاستماع إلى ما كان يقدمه من مواعظ صارمة، واجتهادات يشدد فيها على ضرورة تطوير الممارسات الدينية لتصبح أكثر تسامحا».