موظفون لا ساسة!

TT

في واحد من أدق جمل نصوصه، يأخذ «ماكس فيبر» على البيروقراطية الألمانية عامة والبروسية خاصة أنها تتصرف كطبقة موظفين وتحجم عن ممارسة دورها السياسي، رغم أنها هي التي تقود الدولة عمليا ويوميا. ماذا يمكن أن نقول نحن العرب، إذا كانت بيروقراطيتنا عندنا لا تتصرف أصلا كبيروقراطية: كمؤسسة تعمل بصيغ وآليات عقلانية وترتبط بمصالح الدولة العليا من خلالها التزامها بالقانون نصا وروحا؟ وما المسافة التي تفصلنا اليوم عن بناء بيروقراطية حديثة كهذه، قبل أن تصير طبقة سياسية بحكم الضرورة التي تجعل منها جهة تتولى عمليا إدارة الدولة بصورة شرعية وقانونية ويومية، في جميع الظروف والأحوال؟

لقد مر حين من الدهر كانت معالم بيروقراطية أولى قد بدأت تتبلور خلاله في بلدان عربية عديدة. حدث هذا في المشرق خلال حقبة النضال من أجل الاستقلال، وبعد الحصول عليه بفترة قصيرة، عندما كانت الدولة فوق السلطة ومنفصلة عنها، وكان الموظف يرتبط بمصالحها العليا، دون أن تقتله الرغبة في خطب ود الممسكين بالحكم، وكان البرلمان يستطيع رفض طلب رسمي وخطي من رئيس الجمهورية يدور حول زيادة رواتب مساعديه، مثلما حدث ذات مرة مع الرئيس الراحل شكري القوتلي، دون أن تقوم الدنيا أو تقعد، أو يعتقل أزلام الرئيس النواب ورئيسهم، صديقه اللدود المناضل الراحل أكرم الحوراني بكلام آخر: جاء الاستقلال بمبدأ الدولة كحاضنة عليا مجردة يخضع لها وينضوي فيها كل ما ومن عليها، تديرها أجهزة ثابتة القوام يسمونها البيروقراطية، تعمل في إطار قانوني يتسم بحيدة ونزاهة نسبيتين، تضع مصالح الدولة فوق أي مصلحة جزئية أو حزبية أو شخصية. بعد حين، جاءت حقبة الانقلابات والثورات بمبدأ السلطة التي تعلو على الدولة والمجتمع وتعيد إنتاجهما انطلاقا من مصالح ومنظورات الممسكين بأعنتها، التي كثيرا ما كانت شخصية، مع ما ترتب على هذا النهج من انهيار في التراتب الوظيفي والمسؤوليات الشخصية والعامة ودور القانون، وتاليا من اختفاء يكاد يكون تاما للبيروقراطية كجهة بانية وحافظة للدولة.

في هذه الحقبة، تحول البيروقراطي إلى موظف سلطوي، وغاب دوره المحايد والقانوني وتاليا السياسي بقوة الأمر الواقع، الذي ارتبط في الماضي بالدولة، وصار الآن رهن إرادة خاصة تمسك بسلطة تديرها على هواها، تضرب عرض الحائط بالقانون والتخصص المهني/ الوظيفي، وتفرض إرادتها قانونا يرضخ له الجميع، تنفذه أجهزة سرية غالبا تقع خارج أي نظام مراتبي ولا تخضع لأية مساءلة أو قانون، تستطيع التدخل متى شاءت في سير عمل رسمي فقد جزءا كبيرا من طابعه العام، وظيفيا كان أم غير وظيفي، يقع بكامله تقريبا خارج القانون ومساراته الشرعية.

لا داعي للقول: إن اختفاء السياسي المستقل، سياسي الدولة، من الوزارات الكيفية والبرلمانات الصورية والأحزاب الزبنية والشللية، وتحوله إلى موظف لدى «الشخص» – حسب تعبير الأخوين رحباني الموفق في واحدة من مسرحياتهما – لازم اختفاء البيروقراطية ومهد له، فكان هذا الاختفاء المزدوج علامة على اختفاء الدولة وتلاشي المجال العام، واختفاء أية جهة رسمية يمكن أن تعيد إنتاجه كمجال سياسي/ قانوني مفتوح وفاعل. يفسر هذا ما تعرضت له البيروقراطية من تهميش على يد النظم السلطوية، وعانته من إفساد منظم وضعها خارج أي مؤسسية، بينما تم تحميلها المسؤولية عن القصور والتقهقر الحاصل في كل موقع ومكان، حتى إن المواطن العادي لم يعد يرى الدولة في البيروقراطية بل نقيضها، في حين انقلب الساسة الذين خدموا الشخص إلى موظفين يؤمرون فيطيعون، ينفذون ما يتعارض مع قناعاتهم ويفعلون ما لا يؤمنون بصحته أو شرعيته، بل ويقبلون الرضوخ لمن هم دونهم مرتبة داخل وزاراتهم ومواقع عملهم، لأنهم أعلى مرتبة منهم في الأجهزة السرية التي تدير البلاد والعباد، وأكثر نفوذا وسطوة حتى في إطار الوظائف الرسمية العلنية، كما بينت أحداث كثيرة ربما كان بين أهمها رد تلقاه وزير من موظف تابع له طالبه بالقدوم إلى العاصمة، فأجابه: أنا أتناول الآن الطعام مع أصدقاء، فإن كنت بحاجة إلي أو تريد احتساء كأس ويسكي وتناول بعض اللحم المشوي معي، تعال أنت إلى هنا! حين أبلغه الوزير بقرب وقوع كارثة في سد تابع لوزارته هو مديره، كرر له قول امرؤ القيس: اليوم خمر وغدا أمر. في النهاية انهار السد فطرد الوزير من منصبه وبقي الموظف «المدعوم» على رأس عمله!

لم يبق السياسي سياسيا بل غدا موظفا، ولم يتحول الموظف إلى بيروقراطي بل صار خادم سيده الشخص، الذي حدد له أوقات نومه ويقظته، طعامه وشرابه، زواجه وطلاقه، كلامه وصمته، حياته وموته. لا عجب أن سنوات النظم السلطوية كانت سنوات هلاك عام أصاب جميع مؤسسات الدولة، وأن الربيع العربي سيجد نفسه في مواجهة ضرورة لا مهرب منها هي: إعادة بناء البيروقراطية كجهاز يدير الدولة بالقانون ويرتبط بمصالحها العليا وليس بأي شخص مهما كان موقعه، وإعادة بناء المجال السياسي كي يتحول الوزراء والنواب إلى سياسيين يعملون في الشأن العام، ويقلعوا عن أن يكونوا مجرد موظفين، تمهيدا لاسترداد دولة ترى السلطة نفسها بدلالتها وليس العكس، كما هو الحال اليوم.

لا ينهض شعب يرى ساسته في أنفسهم مجرد موظفين انعدمت علاقتهم بمصالح الدولة والشعب العليا إلى الدرجة التي تجعلهم يضعون ضميرهم في سلة المهملات، يعطون الأولوية في وجودهم لجيوبهم، يؤذن وجودهم بسقوط الدول والمجتمعات في مآزق لا تخرجها منها غير جهود خارقة تخرجها من السلطوية، البنية التي شوهت تطورنا وتاريخنا الحديث، وألقت بنا إلى قلب الانفجار الكبير الذي نعيشه منذ نيف وعام، مع الآلام الهائلة التي تسببها لنا، والتضحيات الكبيرة التي تفرضها علينا!