هل استحق القذافي الإعدام العشوائي؟

TT

بقي العقيد القذافي مثيرا للجدل في مماته كما في حياته. فالعالم ما يزال يقلب في ظروف مقتله، ويتجادل حول ما إذا كان يجب أن يقتل بهذه الطريقة بعد أسره حيا، أم كان يجب أن يقدم إلى المحاكمة. والواضح أن رواية مقتله في تبادل لإطلاق الرصاص بين بعض مؤيديه والثوار بعد أسره لا تقنع أحدا. فالعالم شاهد في مقاطع الصور التي التقطت بالهواتف الجوالة وتم بثها في مختلف وسائل الإعلام، القذافي حيا يجره الثوار الذين أسروه، كما شاهدوه وهو يتعرض للضرب والدماء تسيل على وجهه، ثم وهو يجر إلى الأرض قبل أن يظهر في مقاطع أخرى وقد فارق الحياة وآثار طلق ناري واضحة على الجانب الأيسر من رأسه. كل ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأنه أعدم في تلك اللحظات التي امتزج فيها الفرح بالغضب، وتداخلت صيحات الاحتفال بدعوات الانتقام والثأر.

ظروف قتله في تلك اللحظات الضبابية، طغت على احتفال ليبيا بالتخلص من نظامه، كما شوشت على التغطية الإعلامية لخبر انتصار الثورة الليبية وسقوط آخر معاقل النظام البائد. وأمام استمرار الجدل وتصاعد الضغوط الدولية والأصوات المطالبة بالتحقيق في ملابسات مقتله، اضطر المجلس الوطني الانتقالي إلى الإعلان عن فتح تحقيق. كما تم الإعلان في الوقت ذاته أن جثمان القذافي لن يكون معروضا لكي يشاهده الناس، بعدما ظل على مدى أيام في ثلاجة مفتوحة يتقاطر عليها الناس لرؤية الجثة قبل تحللها والتقاط الصور التذكارية. كان واضحا أن هناك خلافات حول أين ومتى يدفن القذافي، مثلما كان هناك خلاف في البداية حول أين ينقل بعد أسره ثم بعد قتله، لذلك صدرت العديد من الروايات والتصريحات المتضاربة، قبل أن يتقرر أخيراً دفنه في الصحراء.

لقد دفع الليبيون ثمنا غاليا من أجل نيل حريتهم وإنهاء حكم العقيد الذي جثم على صدورهم اثنين وأربعين عاما. أكثر من ثلاثين ألفا قتلوا (البعض يقول خمسين ألفا)، ومثلهم جرحوا، وآلاف اعتبروا في عداد المفقودين خلال المواجهات الدامية التي امتدت نحو ثمانية أشهر بعد أن أعلن العقيد الحرب على شعبه المنتفض. معاناة شديدة عاشها الليبيون خلال هذه الفترة بعد أن استخدم نظام العقيد كل أدوات القتل والإرهاب التي يملكها لقمع انتفاضة الليبيين، فأطلق العنان لكتائبه لكي تقتل وتعذب وتغتصب، وجند المرتزقة، وحاصر المدن قاطعا عنها إمدادات المياه والكهرباء وضروريات الحياة من غذاء ودواء. كان واضحا من أفعال العقيد وخطبه النارية أنه لن يتوقف عن القتل والتدمير حتى بعد تدخل حلف الناتو لدعم الثورة، وحتى بعد محاصرة الثوار لآخر معاقله.

لكل ذلك كان القذافي سينتهي إما هاربا مطاردا من بلاده ومطلوبا من المحكمة الجنائية الدولية، أو مقتولا، أو معتقلا في انتظار المحاكمة. كثيرون كانوا يخشون من استمرار الرجل طليقا لأنه سيستمر يبث الرعب والقلاقل، وسيعمل على زعزعة استقرار الوضع الجديد. وكثيرون أيضا كانوا يرون أن اعتقاله وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية سيعني سنوات من الانتظار والجلسات أمام المحكمة التي سيحيلها القذافي إلى مسرح يستعرض فيه هزلياته ومواهبه في التمثيل، لا سيما أنه يعرف أنه لن يصدر عليه حكم بالإعدام أمام هذه المحكمة، بل سيذهب في النهاية إلى سجن ينتظر فيه ظروفا ربما تسمح له بالخروج ضمن صفقة من صفقات السياسة وتقلباتها.

لا شك أن كل إنسان حريص على الثورة الليبية كان يتمنى القبض على العقيد أو مقتله أو إعدامه بعد محاكمة داخل ليبيا على كل ما سببه للبلد ولشعبها، لكن من منطلق هذا الحرص أيضا لم يكن المرء يتمنى أن تطغى ظروف قتله بتلك الطريقة على إعلان النصر لليبيين الذين دفعوا أغلى ثمن حتى الآن من بين كل الثورات والانتفاضات التي انطلقت شرارتها الأولى من تونس. فلو كان الرجل قتل أثناء أسره، ومن دون كل مشاهد التعذيب والتنكيل لكان ذلك أفضل وأوقع في النفوس. أما قتله بتلك الطريقة ونشر مشاهد التعذيب والتنكيل، فلا شك أنه أخذ من وهج لحظة النصر، وأثار تساؤلات أخلاقية صعبة. فالليبيون الذين قاتلوا لإزالة ظلم العقيد ونظامه الاستبدادي يجدون أنفسهم في حاجة إلى تحقيق في ملابسات قتله وإعدام أسرى آخرين، بدلا من أن يعيشوا فرحة النصر من دون أسئلة من نوع كيف يقوم الناس بأفعال تجعلهم يبدون وكأنهم يمارسون ما يشبه تجاوزات النظام الذي قاتلوا لطرده وإنهاء ممارساته.

هذا الكلام قد لا يعجب بعض الناس الذين يرون أن القذافي يستحق القتل بلا رحمة أو شفقة لأنه قتل الناس بأبشع الطرق، وعلق المشانق، ومارس نظامه أبشع أساليب التعذيب والتنكيل، واستخف بالليبيين حتى آخر أيامه بوصفهم بالجرذان وبسؤاله الشهير: من أنتم؟ لكن ليس هناك مسالك سهلة في هذا الموضوع، فليبيا تريد وتأمل في نظام جديد لا يشبه نظام العقيد في شيء، لا في ممارساته ولا في أخلاقياته، وبالتالي فإنه لا مفر من النظر فيما حدث، ومنع طغيان روح الغضب والانتقام على روح الثورة.

لقد دعا المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي في خطابه الذي أعلن فيه ليبيا حرة ومحررة إلى التسامح والصلح والصبر، والاحتكام إلى القانون وألا يلجأ الناس إلى أخذ حقوقهم بأيديهم. هذا هو ما تحتاجه ليبيا في الفترة المقبلة، فالمهمة الآن ليست فقط في إعمار ما دمرته الحرب، بل في فتح صفحة جديدة من التسامح والتعايش من أجل بناء ليبيا جديدة، تنبذ حكم الفرد، وتؤسس للتداول السلمي الديمقراطي على السلطة، وترسخ حكم القانون، وعدم الاحتكام للسلاح لحل أي خلافات قد تنشأ في الفترة المقبلة التي لن تكون سهلة، بل ستحتاج من الليبيين أقصى درجات الوعي والانضباط من أجل مصلحة الوطن.

[email protected]