بوعزيزي يقترع

TT

المهم في انتخابات تونس، في المرتبة الأولى، لم يكن النتائج، بل إنها جرت من دون أي شك في نزاهتها. هذه مرحلة جديدة في العالم العربي، هي المتغير الأساسي، إذا ما دامت، وإذا ما عمت أيضا. أي أن يفوز المرشح الذي تقترع له الناس وليس المرشح الذي يقترع له الأمن.

هذا النوع من رفع اليد عن رغبات الناس وخياراتهم يعطي الناس أملا في المستقبل. يطمئن جيل محمد بوعزيزي في العالم العربي أنه لن يعيش الحياة التي عاشها والده وأعمامه وأخواله: يقترف شيئا يسمى الاقتراع، وإذا ما اقترع خاف ألا يرضي سيده. اقتراعات واستفتاءات وانتخابات لا معنى لها ولا أهمية لها عند أحد. الدولة تضحك على الناس والناس تضحك على الدولة وفي النهاية يبكيان معا، ولكن دما لا دموعا. فإلى متى يدوم الخداع، وإلى متى يمكن العيش في التكاذب. كان معمر القذافي صادقا مع نفسه على الأقل في هذا الباب: لا انتخابات ولا استفتاءات، وكل من تحزب خان. فهو قائد ملهم فوق نظام الاقتراع والحاجة إلى استفتاء يثبت وجوده ويمدد له.

سمعت في الإذاعة عظة لشيخ سوري عن تربية الأولاد، يقول فيها: لا ينفع أن تقول لابنك لا تكذب، لأنه سوف يكذب. لكن إذا كنت أنت رجلا صادقا فلا تقل له شيئا، لأنه لن يكذب في حياته. لقد سئم الشعب العربي الإصغاء إلى رجال لا يقولون الحقيقة في شيء، لا عن مصيره ولا عن مآله ولا عن مستقبله. سئم الأرقام المضحكة والأرقام المركبة والمفبركة التي تستغبيه عاما بعد عام، وعقدا بعد عقد.

انتقل من مرحلة لا للاستعمار إلى مرحلة لا للاستحمار. لم يعد يطيق أن تعامل شعوب العالم كبشر أسوياء ويبقى هو الكائن الوحيد الذي يمطره حكامه بشتى أنواع الأرقام الاحتكارية: يدعى إلى مائدة لكي يصفق لا لكي يأكل، ويدعى إلى ذكرى الاستقلال لكي يؤكد عبوديته، ويدعى إلى حفل القسم لكي يستمر في دوره كشاهد للزور.

في هذا المعنى فقط، تتخذ انتخابات تونس أهمية ما، في عالم لا يكف عن اجترار الانتخابات التي لا يصدقها ناخبها ولا منتخبها. فهي مزيفة سلفا ومعدة سلفا، وسلفا لا تعني أحدا. فالناخب يؤتى به إلى غرفة الاقتراع لكي يسجل حضوره إرضاء لمخفر البلدة. وفي انتخابات مصر الأخيرة لم يعد الناس يخرجون حتى على سبيل النزهة. ولم تفرغ الكلمات والمصطلحات فقط من معانيها بل فرغت الناس من آمالها.