صعود الإسلاميين أم صعود الطبقة الوسطى؟

TT

هل يمكن القول: إن «صعود» القوى الإسلامية سواء تلك القادمة من تجربة سياسية طويلة كـ«الإخوان» وكل التمثلات التي انبعثت من جسد «الإخوان» أو انفصلت عنه بشكل مرضي أو صحي يمثل صعودا للخطاب الإسلامي بما يشكل تطورا طبيعيا في تطور الخطاب وتعاطيه للسياسة بعد أن مكث طويلا في صفوف المعارضة؟ سؤال كهذا لا يمكن الإجابة عنه إذا توقفنا أسرى معادلة الإسلاميين وخصومهم التي يبدو أنها ستطول طويلا بسبب النزاع حول مفاهيم اجتماعية وقضايا فقهية تستند إلى رؤى مرحلة النزاع مع السلطة أكثر من كونها معبرة عن تطور طبيعي للمفاهيم الإسلامية المعاصرة وفق تجربتها المعاصرة. هناك الكثير من الرؤى تستبعد العامل الديني، ليس لكونه غير مؤثر، بل لأنه غير حقيقي في معادلة التحليل، ذلك أن ما يحدث الآن هو صعود للطبقة الوسطى التي نمت بعيدا عن أحضان السلطة، وقريبا من أحضان السلطات الموازية، سواء المعارضة أو التيارات الأكثر تمثيلا في المجتمعات الإسلامية، وهو التيار الإسلامي في أغلب تجارب العالم الإسلامي، فالمسألة ليست صعود الإسلاميين بقدر ما أنهم يمثلون الطبقة الوسطى التي ولدت في محاضن الصحوة الدينية التي انبعثت منذ بدايات السبعينات الميلادية كخطاب بديل للخطابات العلمانية والقومية واليسارية التي لم تستطع أن تنتج خطابات حاضنة لتلك الطبقة بسبب انشغالها بالصراع مع السلطة، وبسبب نجاح السلطات في خلق أجواء المواجهة بين هذه التيارات والتيار الإسلامي النامي آنذاك. في رأي أكثر المتفائلين فإن واقع اليوم على مستوى العالم الثالث ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص لا يبشر بخير في ظل هذا الاستقطاب السياسي الذي تعيشه المنطقة، وفي ظل حال «الفشل» باتجاه أي تغييرات حقيقية في القضايا الكبرى العالقة التي باتت تستنزف الكثير من الجهد الذي كان يمكن أن يجير لحساب التنمية والتطوير والاستثمار في الإنسان.

إذا كانت هذه رؤية تقليدية طالما مللنا سماعها، فإن الإشكالية أن العقل الجمعي لمجتمعاتنا الإسلامية والعربية قد حول مسألة «الوعي بالمشكلة»، الذي يمثل الخطوة الأولى على درب الحل الطويل، إلى مشكلة بحد ذاتها، فالخطاب الثقافي السائد الذي تندرج تحته الرؤى السياسية والدينية والاقتصادية على اختلاف تياراتها حوّل مسألة الإحساس بالأزمة إلى حال جراح نرجسية حادة تشبه إلى حد كبير حال الذهول في بدايات الخروج من شرنقة الاستعمار إبان صعود الحضارة الغربية، وما أنتجته من مفاهيم ورؤى أخذت طريقها في الوقوف على أنقاض الرمق الأخير من الخلافة العثمانية التي تآكلت من الداخل بفعل الموات والتقليد والفساد قبل أن تصطدم بالخارج.

هذا الجرح النرجسي تعددت مظاهره وتشعبت نتائجه حتى غدا من التعقيد والتشابك ما يجعل حصر مسبباته ضربا من التبسيط والسذاجة الفكرية، إلا أن ثمة سببا يعتبر اللاعب الرئيسي في التحول من حال الرصد للوضعية المتردية الراهنة إلى الهروب من المشكلات من خلال إنتاج وعي زائف يعلق مشكلاتنا على مشجب الآخر، بل ويجعلها حصريا نتائج طبيعية لمؤامرات معقدة، ما يستلزم البحث عن مخلص تختلف أوصافه من طرح لآخر، فهو عند الإسلاميين «السلفيين» عودة سحرية إلى الماضي تتم من خلال الانطلاق من القاعدة الشعبية للمجتمع، وصولا إلى الأعلى من خلال مقولات سلوكية تطهرية تبعث على المزيد من الاغتراب والانغماس في الجراح النرجسية، بينما هو عند الإصلاحيين منهم إعادة إنتاج فكرة المخلص الطوباوية، بإعطائها بعدا واقعيا بدأت هذه الصرعة في التصالح مع ثقافة التعددية، ممثلة في الديمقراطية، الغول الذي كان يشار إليه دوما بأصابع التجريم والإدانة، وإن كان على حساب معانقة الاستبداد والتخلف، ثم جاءت موضة المجتمع المدني، وصولا إلى الانغماس في الوطنية والمواطنة والاهتمام بالداخل ومشكلاته، ولا شك أن هذا التحول في رؤية المخلص من الأزمة في الخطاب الإسلامي الإصلاحي يعد نقلة كبيرة في بنية الخطاب واستراتيجياته ورؤاه.

والسؤال الأبرز في هذا السياق هو عن حقيقة تلك التصنيفات والأحكام التي يحرص الخطاب المتطرف على دمغ الآخرين بها؟ في اعتقادي أن كثيرا من التصنيف للآخر باعتباره آخر قام على فروقات هلامية مزيفة، فالجميع يدرك أن الواقع المحلي لم يعرف بعد استقطابا آيديولوجيا بالمعنى الدقيق للكلمة، كما عرفته البلدان العربية الأخرى التي دخلت في عراك طويل ومرير لا تزال آثاره المجتمعية جاثمة حتى الآن، وهذا بخلاف واقعنا الذي لم يشهد مثل هذه الصراعات الحقيقية حول مرجعية الإسلام، بقدر ما أنها خلافات حول دعاوى امتلاك فهمه وتفسيره والحديث باسمه ونبذ كل الطروحات الأخرى التي تحاول أن تعمل وفق مقاصده العامة والبنى الأساسية التي قام عليها بعيدا عن الإرث التاريخي الذي خلفه المجتهدون من علماء الإسلام، والذي مهما كانت مكانته فهو باتفاق الجميع ليس دليلا بذاته ولا محددا منهجيا في الفهم والاستنباط، وبالعبارة التراثية العذبة: «وكم ترك الأول للآخر».

بيد أن هذا التحول غير حقيقي وزائف، بدليل أن التسامح والمساواة والتعددية الثقافية والإيمان بوجود الآخر وأحقيته بالمشاركة مفقود في أجنحة هذه التيارات الداخلية، وإطلالة يسيرة على منجزه الثقافي والفكري، ولو بشكل عشوائي، كفيلة باستخراج الفرق الضخم بين الاستخدام المصلحي والنفعي لتلك المفاهيم... من جهة أخرى، فإن مفهوم المجتمع المدني والمواطنة يعني انغماسا في الحاضر ومشكلاته والاهتمام بمفهومات العمل والتنمية والتجدد الذاتي والمشاريع والبرامج، لكن هذا «الحاضر» المتعب بعيد عن ذهنية الخطاب، فضلا عن برامجه، لأنه مشدود إلى الماضي الزاهي بانتظار لحظة القفز على المستقبل الذي لا يجيء!

[email protected]