القذافي.. الدراما المستحيلة

TT

ألهمت سير عدد من الطغاة كتّابا كثرا لتوثيقها وتحويلها إلى روايات وأفلام سينمائية، من ستالين وهتلر، مرورا بتشاوشيسكو، وصولا إلى صدام حسين. هناك من بدأ يعد العدة لإنتاج أعمال توثيقية ودرامية عن الرئيسين المخلوعين: التونسي زين العابدين بن علي، والمصري حسني مبارك..

الأرجح أن من سيحاول التصدي لمهمة إنجاز عمل درامي ما لسيرة معمر القذافي، فإنه سيجد الأمر أقل إثارة.. ليس مردّ ذلك لضعف الرواية أو لافتقارها الحبكة أو الدراما التشويقية اللازمة، لكن الصعوبة في كون القذافي قد روى ووثق حياته بنفسه بالصوت والصورة، على نحو لم يسبق لديكتاتور آخر أن فعله.

لقد وثق التاريخ لقطات مهمة من حياة طغاته، سواء في عملهم ويومياتهم، أو في لحظات موتهم. لكن حين تأتي المقاربة لتشمل القذافي يصبح هناك كلام آخر..

من المستبعد أن يكون أحد من الطغاة قد أحب نفسه وأعجب بها إلى الحد الذي فعله معمر القذافي..

للرجل ساعات طويلة من التسجيلات التي نتعرف فيها على مظهره وأفكاره وجنونه ونزقه ودمويته.. من ملابسه المزركشة وخيمه وحارساته، إلى خطاباته التي تستمر لساعات، وصولا إلى ذروة جنونه في الأشهر الأخيرة حين وصف شعبه بأنهم جرذان سيقوم بسحقهم..

لم يكن للقذافي وجهان.. كان الرجل هو نفسه في السر والعلن وأمام الكاميرا وبعيدا عنها..

على مدى أربعة عقود كان القذافي بتلاوين أمزجته وجنوحه حاضرا أمام أعيننا، فماذا بإمكان أي كاتب، مهما جنح خياله، أن يضيف؟ وهل يمكنه أخذنا إلى مساحات لم يسبقه القذافي إليها..

هل بإمكان صناع الأفلام أن يتخيلوا مقاربة مشهدية كتلك التي يتحدث فيها القذافي أمام الرؤساء العرب في قمة في مدينته سرت، يطالب فيها بالتحقيق في إعدام صدام حسين، ويحذر من أن الدور سيصيب الجميع؟ لنكتشف بعد عامين من كلامه هذا أنه سيلاقي مصيرا أشد قتامة وقسوة مما حل بصدام حسين..

قد يرغب مؤلف أو راو ما أن ينهي كتابة سيرة القذافي أو فيلم ما يروي حكايته، بتخيله معتقلا في قاعة محكمة يعترف فيها بجرائمه ويعلن الندم ويسجن باقي حياته.. حتى ذلك الخيال الضعيف والساذج تمكن القذافي من دحضه وكتابته كما يريد هو. لقد قدم لنا الحقيقة مجردة وعارية بالصوت والصورة، كأنه يقول في ختام سيرته: «يا سذج لن تكون هناك محاكمة، بل سأموت شر ميتة، وسأجعل من جثماني المسجى مزارا يتوافد الكبار والصغار للنظر إليه»..

كيف يمكن لحبكة درامية أن تتفوق على مشهد الرجل قبل دقائق من مقتله، واهنا تغطيه الدماء ويتعرض للإهانة والضرب؟ هل من ديكتاتور آخر نحفظ صوره حيا وأسيرا وميتا ومسجى للزوار كما جرى مع القذافي؟

لم يترك لنا القذافي أي مجال للخيال، فقد أنهى سيرته البصرية بمشهد موته المأساوي تماما كما كانت سنوات حكمه مأساوية ودامية..

هل لباقي الطغاة أن يتأملوا في هذه الدراما القذافية..