العرب في سنة أولى ديمقراطية

TT

أصاب كبد الحقيقة رئيس حزب النهضة، راشد الغنوشي، عندما وصف انتخابات «المجلس الوطني التأسيسي» التي جرت الأحد الماضي بـ«الحدث التاريخي الهام في تونس والوطن العربي». عيون العالم كله شاخصة إلى تونس، مهد الربيع العربي وأمه التي من رحمها انطلق، ومن جسد ابنها البوعزيزي التهبت حممه الأولى. 90% نسبة الناخبين التونسيين، رقم قياسي نادر، يدلل على ظمأ صحراوي للتعبير عن الرأي. فوز الإسلاميين في الداخل والخارج بأغلبية وازنة هو أمر له دلالاته، في بلد شرب العلمانية ومارسها. أن يقول الغنوشي: «نعم، فزنا في الانتخابات بأغلبية كبيرة، لكننا نرفض الانفراد بالحكم، لأننا ضد احتكار السلطة والاستبداد» لا يهدئ بالضرورة من مخاوف الليبراليين واليساريين الذين خرجوا في مظاهرات سريعة للتعبير عن قلقهم. سلوك حزب النهضة في تونس سيكون تحت المجهر، وقراراته المقبلة، كما سياساته، ستشكل النموذج الأول لما يمكن أن يمارسه حزب إسلامي عربي قمع على مدار عقود واضطهد قبل أن يصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وهو ما يمكن أن يتكرر في دول مجاورة مثل مصر وليبيا. أن يفي حزب النهضة بتعهداته ويلتزم بمجتمع «علماني تعددي» سيشجع إسلاميين آخرين قد يصلون إلى السلطة في بلدان مجاورة على نبذ التطرف واحترام الاختلافات في المجتمع الواحد، وهو أمر سيسقط عنهم الألبسة التي جعلها النظام البائد رديفا لهم.

مسؤولية حزب النهضة بهذا المعنى كبيرة وهائلة، فعلى حدود تونس تستيقظ ليبيا من كابوس القذافي، لتجد نفسها في أحضان مقاتلين يشكلون حزبا جديدا لهم يخوضون به غمار الحياة السياسية. هذا الحزب الوليد طابعه الإسلامي واضح من هويات قادته. البعض التمس العذر لرئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل عندما قال في خطابه يوم التحرير: «إن ليبيا دولة إسلامية، وأي قانون يعارض المبادئ الإسلامية للشريعة هو معطل قانونا»، معطيا مثلا قانون تعدد الزوجات، فالبعض يرى أن الرجل مضطر لإرضاء أولئك الذين يمسكون بالأرض، ويحملون السلاح. عبد الجليل لم يتراجع في اليوم التالي عن جوهر خطابه، لكنه جمله ما استطاع، وشرحه بما يريح كل المذاقات.

أحد الحزبيين العلمانيين التونسيين قال: إن بلاده تنتقل بعد الانتخابات «من الجهاد الأصغر الذي هو التخلص من الطاغية إلى الجهاد الأكبر أي بناء الدولة»، وهو ما سينطبق على كل المحررين الجدد. وهنا يصبح الفائزون على المحك، فالاختبار صعب، ووصول الإسلاميين إلى السلطة في هذه الفترة بالذات، وعلى رأس دول منهكة ومهترئة لكثرة الجور الذي لحق بها، ليس نزهة يحسدون عليها.

مصر مرشحة هي الأخرى لتعيش السيناريو التونسي في انتخابات مجلسي الشعب والشورى التي باتت على الأبواب. التعاضد الإسلامي الذي يسعى له البعض، بتناسي المسائل الخلافية بين الأحزاب وبشكل أساسي بين السلفيين و«الإخوان» والتركيز على إيصال مرشحين إسلاميين بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو وجهات نظرهم العقائدية، قد يؤتي أكله، لأن المزاج العام في المنطقة العربية ديني، وبامتياز.

وإذا صدقك القول الثوار السوريون الذين يشاركون في المظاهرات ويتسللون إلى لبنان، فبمقدورهم أن يخبروك بأن الشيخ عدنان العرعور هو أكثر رجالات سوريا شعبية هذه الأيام، وليس أبدا برهان غليون الأكاديمي والأستاذ الجامعي العلماني، ولو كان بمثابة رئيس لهم في الوقت الراهن، كونه رئيس المجلس الوطني.

وتأتيك الأخبار من هناك لتقول أيضا: إن ثمة في سوريا ما يمكن تسميته «الاجتماع الإسلامي» أي أن الشعب سئم البعث الذي حكم سوريا باسم العلمانية بالحديد والنار، وباتت نزعاته الإسلامية واضحة، خاصة في المظاهرات. لا الذقون هي المقياس ولا حتى الأحزاب الدينية، وعدد المنضوين تحت لوائها، وإنما الكلام هو عن حالة شعبية يمكن رصدها.

لا يخفي هؤلاء المعارضون أيضا أن رجال الدين، بدءا من درعا، كانوا على رأس الثورة وفي مقدمة المنتفضين، كما أنهم يتحدثون عن دعم للثورة السورية من رجالات دين من بلدان عربية عدة. ويسر لي أحدهم: «بصراحة، هؤلاء هم سندنا الوحيد في الوقت الراهن».

الشعب السوري متدين بطبيعته، وإحساسه بأن النظام يلعب على الوتر الطائفي يزيده تدينا. المشكلة ليست هنا، وإنما في ما ستسفر عنه هذه الموجة الشعبية حين ينكشف غطاء الاستبداد، وتبدأ الأصوات تتدفق على صناديق الاقتراع.

رغم أن الشبان السوريين المعارضين يصرون على أن الحرية ستفرز فكرا سياسيا دينيا جديدا، متسامحا ومنفتحا، فإن المشهد السياسي لدول الربيع العربي لن تتضح معالمه وتستقر قبل أن تأخذ العملية الديمقراطية مجراها، ويعود للأهالي سكونهم وتوازنهم.

أن يفوز إسلاميون في أول انتخابات بعد أكثر من نصف قرن من القمع الدموي الذي مورس عليهم سواء في تونس أو أي بلد عربي آخر هو أمر منطقي جدا، ولا بد لإرادة الشعوب أن تحترم، أيا كان خيارها. لكن ما لن يكون منطقيا هو أن تقوم الثورات من أجل دولة مدنية تعددية، تشارك فيها كل الأطياف، ويدفع في سبيلها عشرات آلاف الضحايا، لينكث أول الواصلين إلى الحكم بوعودهم. من هنا تأتي الأهمية القصوى للنموذج التونسي، الذي يرصده العرب بمكبراتهم وأيديهم على قلوبهم.