الويل من الحيرة

TT

نقول لبعضنا البعض وندعو: «الله ما يحيرك». على بساطة هذه الكلمة، فإنها في الحقيقة تنطوي على أبعاد نفسية وفلسفية عميقة. فالحيرة وما تضمه من تردد تجر إلى متاعب ومآس ومشاكل نفسية قد تسوق الحائر إلى الاكتئاب وتزيد منه. قد تصبح أو تكشف عن اضطراب في الشخصية. والملاحظ أنها كثيرا ما تلتصق بالأذكياء والمفكرين والفنانين. فهم يرون الجوانب المختلفة لكل شيء وكل فكرة فتحيرهم. هكذا قامت تلك المسرحية التراجيدية الخالدة «هاملت»؛ ففيها ظل البطل متحيرا مترددا في أخذ الثأر لوالده وأيضا في استجابته لحب أوفيليا، فقال تلك الكلمة الشهيرة عن الحيرة: «أن تكون أو لا تكون؟ تلك هي المسألة».

انعكست المسألة في الكثير من الأدب الفلكلوري. ومنها ما جرى لفلاح أردني مخلص في عمله يقضي يومه يحرث ويحفر ويزرع ويجمع ولا يكل من العمل. عمد صاحب المزرعة لمكافأته. قال له: «إنك تستحق الترقية. لا تذهب للحقل بعد اليوم. تجلس في المخزن. يأتونك بالبطاطا. كل ما هو مطلوب منك هو أن تفرز الصغيرة من الكبيرة». شكره وبدأ بهذه المهمة البسيطة، ولكنه جاءه في آخر الأسبوع وطلب منه إعفاءه من هذه المهمة وإعادته للعمل المضني في الحقل. استغرب الرجل من قوله فسأله فأجابه: «يا سيدي فرز البطاطا أتعبني أكثر من زرعها وحصدها. أنظر إلى (البطاطاية) الواحدة وأفكر هل هي صغيرة أضعها في كيس الصغيرات، أم كبيرة فأضمها للكبيرات. أقرر أنها صغيرة وأضعها مع الصغار. ثم تلوح لي أنها في الواقع كبيرة. ألتقطها ثانية لأضعها مع الكبيرات. ثم أنظر فتلوح لي أنها ليست كبيرة بالفعل. فألتقطها مرة أخرى وأعيدها حيث كانت. أتعبتني يا سيدي هذه العملية. دعني أعد للحفر والنقر والزرع لأرتاح!».

كان فلاحا عاقلا. أدرك أبعاد المشكلة فاتقى أضرار الحيرة ومتاعبها. ولكن الكثيرين يقعون فيها. ينصح النفسانيون مرضاهم عندما تنتابهم الحيرة بأن يجمعوا كل ما يمكنهم من معلومات واستشارات بشأن الموضوع. يتدارسونها ثم يقررون ويكتبون القرار على ورقة ويلتزمون بها ولا يحيدون عنها. أضيف لذلك فأقول: اتخذ قرارك خلال النهار وليس ليلا أثناء الأرق. فكلام الليل يمحوه النهار. قال الشاعر. المهم هنا هو أن تتعلم الالتزام بما كتبته على الورقة وتنفذه مهما كان الضرر. فالتردد ضرره أكبر.

أسوق كل هذا الهذيان لمنفعة رئيس الحكومة العراقية، نوري المالكي، ضمن كل الهذيانات التي يتلقاها كل يوم. فهو واقع في كماشة الحيرة. أيلتزم بأوامر إيران أم يستجيب لمطالب أميركا؟ أيكون أو لا يكون، فهذه هي المسألة. تفجرت المسألة في موقفه من انتفاضة سوريا والربيع أو الخريف العربي. أستطيع أن أتصور الرجل يقضي ليله في أرق وقلق. اتبع يا سيدي ما يقوله علماء النفس. اتخذ القرار واكتبه على ورقة والتزم به ولا تحد عنه كما شاع عنك. اكتبه في النهار وبقلم حبر وليس بالكومبيوتر فتحصل طهران على نسخة منه وتغيرها.