لماذا قال ما قاله وفعلوا ما فعلوه؟

TT

قال مصطفى عبد الجليل في خطاب تحرير ليبيا وعودة الدولة، إن النضال ضد الطغيان لم يتوقف: في السجون، في الجامعات، في المساجد. وقال إن ذلك بدأ منذ عقود. فماذا كان يريد أن يقول حقا؟ كان يريد أن يرفع التهمة عن ليبيا بأنها استطاعت تحمل أربعين عاما من العتي والعته، وأنها طوعا تقبلت أن تكون صورتها في العالم صورة مشخصاتي يمشي في الأرض مختالا بالألوان، ويجلس مختالا بالذهب، ثم يحمل خيمته إلى باريس لينصبها قرب «اللوفر»، أو إلى نيويورك، لينصبها قرب مقر تجمع الأمم، العاقل منها وغير المعقول.

تبدو ليبيا اليوم وكأن أكثر ما يؤلمها تهمة التهاون والهوان.. وهذا ما يفسر الطريقة الشنيعة التي قتل بها القذافي، وما يفسر وضع جثته على فرشة وسخة من المطاط في براد للحوم الماشية، وما يفسر تركها ثلاثة أيام للعرض، وما يفسر دفنها في «مكان مجهول» من الصحراء. أما ما قيل عن التحقيق في ظروف القتل وملابساته والبحث عن الذين قاموا بالعمل، فهو كلام لتخدير الهيئات الدولية ولجان حقوق الإنسان، وليس له أي سبب داخلي، فلو كانت الثورة تأبه حقا للمفاعيل الداخلية المترتبة على طريقة القتل أو على تسليم الجثمان، لكانت تصرفت بطرق أخرى منذ البداية.

لكن المجلس الانتقالي يعرف أن ليبيا تريد أن تثأر وأن تنسى.. ليس أن تنسى جماهيرية الكتاب الأخضر ومملكة ممالك أفريقيا، بل أن تنسى، خصوصا، أنها تحملت ذلك طوال أربعة عقود، أن تنسى أنها طوال أربعة عقود كانت مختصرة في رجل واحد، فلما وعدها أخيرا بالتغيير، كان التغيير يعني أن يخلفه ابنه.

سوف نلاحظ مع الوقت أن أعنف منتقديه هم من الرجال الذين كانوا قريبين منه، وهذا ليس تنكرا له.. هذا تفجر بما رأوه وتحملوه. أحيانا يقول المرء، لقد وصلوا متأخرين جدا، لكن أيضا لعلهم تحملوا وعانوا من غلظه وعبثه، أكثر مما تحمل البعيدون منه. فكم وقف يهاجم الحكومة ويحملها مسؤولية الفشل، وكأن لا مسؤولية له في الأمر، وكم وقف خطيبا ضد الفساد على نحو يثير ضحك الليبيين وبكاءهم.

متى سنتوقف عن الكتابة عنه؟ يجب أن نتأكد أولا أن الشعوب لن تسمح بعد اليوم بكل هذا التمادي من القهر والاستعلاء والسطو على ثرواتها وحقوقها وحرياتها. لم تكن تلك ظاهرة عابرة، بحيث ندعها تمر. تلك كانت ظاهرة شبه عامة يجب ألا تتكرر.. وصحيح ما يقول الدكتور مصطفى عبد الجليل من أن ليبيا لم تتوقف عن النضال، وأن هناك الآن المشردين والمضطهدين، ولكن الصحيح أيضا أنه جثم على أربعين عاما من تاريخ ليبيا واستقرارها وهنائها وثرواتها. والإنجاز ليس في الإطاحة بالقذافي وكتائبه وثكنته، بل في إقامة دولة تحول مؤسساتها دون وصول ظاهرة مماثلة في أي وقت.