سلطان البناء والعطاء

TT

رحل سلطان بن عبد العزيز رحمه الله، وترك خلفه تاريخـا حافلا بالأعمال الكبيرة في الحكم والإدارة والعمل الخيري الإنساني.

فمنذ شبابه المبكر تولى مسؤوليات مهمة، أميرًا للرياض، ثم وزيرًا للزراعة فالمواصلات، وأخيرًا وزيرًا للدفاع والطيران، ثم وليًا للعهد. وقد ظهرت قدراته المتميزة في تسيير هذه المرافق المتعددة في الإنجازات الكبيرة التي حققها، وسيجد المؤرخون لسيرته الكثير من المعلومات التي تحتاج إلى مجلدات كثيرة لتوثيقها. غير أن ما أريد الحديث عنه هنا، هو لمحات من الجانب الإنساني في شخصية سلطان بن عبد العزيز من خلال لقاءاتي به في مناسبات عديدة، ومعرفتي بالكثير من المواقف الإنسانية الرائعة التي كان رحمه الله، قطبها المتميز. كان سلطان إنسانـًا كبير القدر والقلب، لا يمرّ يوم إلا وله فيه أعمال خيّرة يستفيد منها الفقراء والمرضى والمدينون والأرامل واليتامى وكل ذي حاجة. فأبواب مساكنه ومكاتبه أينما حلّ، مفتوحة، وصدره منشرح وابتسامته لا تفارق محياه، ولعلني لا أعدو الحقيقة عندما أقول إن سلطان بن عبد العزيز رحمه الله، كان أمّة كبيرة في رجل واحد، وفضائل عديدة في إنسان متفرّد.

فالمؤسسات الخيرية التي أنشأها في أنحاء المملكة، والمساعدات الكثيرة التي قدمها للمسلمين في دول عديدة، والدعم الكبير الذي حظيت به منظمات العمل الإسلامي الخيري والمشترك، كلّ ذلك غيض من فيض، وفصل من فصول أعماله الكبيرة التي سيخلدها التاريخ ويذكرها المنصفون بكل تبجيل وتقدير.

في عام 1994، وبعد اتصال به وهو في الدار البيضاء، وافق رحمه الله على إنشاء المدرسة السعودية في الرباط، تحت رعايته لتحفظ أبناء الموظفين السعوديين في السفارة والمكاتب المرتبطة بها، من التشتت في مدارس عديدة، من بينها المدرسة العراقية، والمدرسة الليبية اللتان كانتا تدرسان مناهج بلديهما بما فيها من عجائب وغرائب، كانت تشكل خطرًا فكريًا وسلوكيًا على التلاميذ السعوديين. وفي مرحلة لاحقة طلبت منه التكرم بشراء المبنى الذي تستأجره المدرسة، فوافق حرصًا منه على أبنائه التلاميذ وأسرهم ومستقبلهم. وها هي المدرسة السعودية في الرباط اليوم تقف شامخة ترعى أبناء الموظفين السعوديين وغيرهم من التلاميذ الذين يتلقون العلم فيها على أحدث المناهج والطرائق، والفضل بعد الله تعالى، يعود إلى سلطان الخير، الذي رأى خطورة الأمر، وتصرف برؤية المسؤول الحريص والإنسان الكريم.

وفي عام 2000، طلبت منه الموافقة على برنامج باسمه في الإيسيسكو لدعم تعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية في العالم، فوافق دون تردد، بل أمر بأن يكون برنامجًا مستمرًا تخصص له موازنة سنوية. وقد حقق هذا البرنامج نجاحًا كبيرًا في تعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية في العديد من الدول في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، واستفاد منه آلاف الطلاب ومئات المعلمين.

وفي عام 2002، عرضت عليه التكفل بعلاج ابن رئيس وزراء ليبيا في العهد الملكي السيد عثمان الصيد، الذي كان يقيم لاجئا في المغرب، ووافق رحمه الله فورًا، وأرسل له مبلغـًا ماليا كبيرًا لهذا الغرض. وأذكر أن السيد عثمان الصيد رحمه الله، قال لي بعد تسلمه دعم الأمير سلطان، وعيناه مغرورقتان بالدموع: القذاقي يستولي على أموالي ويلاحقني لاغتيالي وابنائي، وسلطان بن عبد العزيز يهبّ لمساعدتي وهو لا يعرفني. أي شهم هذا الرجل وأيّ إنسان كريم!

وهناك الكثير من المواقف والأعمال الكبيرة التي لا يتسع المجال لذكرها، والتي تشهد له بالتميّز، وتسجّل اسمه في صحائف المجد والفضل. وقد قلت فيه رحمه الله أبياتـًا بعد عودته من رحلته العلاجية الأولى في نيويورك، كان من ضمنها البيت التالي:

تبني وتـُعطي لا تملُّ كليهما

فيداك غيث ٌصيّبٌ يتدفقُ

وقد كان رحمه الله كذلك، سلطان البناء والعطاء.

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح الجنان، وعوض الوطن والأمة في فقده خيرًا، وألهم محبيه وعارفي فضله الصبر والسلوان. «إنا لله وإنا إليه راجعون».

* المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)