الديكتاتورية لا تأتي بخير قط

TT

بعد غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين وإعدامه قال لي بعض الطلبة العراقيين من تلاميذي في الدراسات العليا القانونية إنهم يتحسرون على أيام صدام عندما يقارنونها بحال العراق في ظل الاحتلال بل وفيما بعد الاحتلال .

ورغم أني ضد الغزو الأميركي للعراق واحتلاله إلا أنني اعتقد أن صدام حسين بغروره وديكتاتوريته كان السبب المباشر لكل ما حل بالعراق بل وبالأمة العربية كلها بعد غزوه الكويت وإصابة النظام العربي الهش في مقتل لم يشف منه حتى الآن .

قلت لطلابي يومها صدقوني «إن الديكتاتورية لا تأتي بخير قط»، وما زلت اعتقد في هذه المقولة اعتقاداً مطلقاً وما زالت الأيام تزيدني إيماناً بها .

وفي الأيام القليلة الماضية لقي طاغية عربي آخر مصيراً أتعس من مصير صدام ذلكم هو معمر القذافي .

وقد شاءت ظروفي العامة وعلاقاتي العربية واهتمامي بالعمل القومي العربي - منذ أيام الطليعة العربية التي كونها جمال عبد الناصر - أن أعرف كلا من الرجلين صدام حسين ومعمر القذافي في بداية صعودهما في حياة بلديهما، وإلى فترة محدودة بعد البداية أدركت معها أن الرجلين أصابهما نوع من الخلل النفسي وفي حالة معمر القذافي أقول بل الخلل العقلي أيضاً وعند ذاك انقطعت ومنذ وقت بعيد كل صلة لي بهما وبنظاميهما .

وسأتحدث هنا عن معمر القذافي فقط باعتبار أن مصرعه البائس ما زال محل الحديث والتعليق في كثير من صحف العالم .

قاد معمر القذافي انقلاباً عسكرياً على حكم الأدارسة ورحبت القاهرة بذلك الانقلاب وقال عبد الناصر لمعمر القذافي إنك تذكرني بأيام شبابي، وقال له في مرة تالية أنت أمين حركة القومية العربية من بعدي .

وصدق القذافي.. وكانت بداية الخلل .

وكان معنا في الطليعة العربية المحامي الليبي إبراهيم الغويل وعرفنا أن إبراهيم يعتبر بمثابة الأستاذ لضباط الانقلاب .

وبعد وفاة عبد الناصر وتولى أنور السادات رئاسة مصر دخلت العلاقة بين ليبيا ومصر طوراً جديداً وجرى تفكير حيوي في اقامة نوع من الاتحاد الفيدرالي بين مصر وليبيا وسوريا .

وفشلت المحاولة .

وزاد خلل القذافي واتضح ذلك عندما قال إن ليبيا بلد بغير شعب وأن مصر شعب بغير قائد وإنه يريد أن يجمع بين ليبيا ومصر يُكون هو قائد البلدين .

ولقنه السادات درساً قاسياً وجاء القذافي لزيارة القاهرة في أوائل حكم السادات وأذكر حادثة كنت أحد شهودها. قال القذافي إنه يريد أن يجري فحوصاً على عينيه فأرسلته السلطات المصرية إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي. واستدعى السادات الدكتور/ سيد الجندي رئيس قسم المخ والأعصاب في مستشفى القوات المسلحة وقال له «يا سيد أنا عايزك تعرف لي الولد ده - يقصد القذافي- مخه فيه ايه».

وذهب القذافي إلى المستشفى وأجريت له فحوص على عينيه. ثم لاحظ أن فحوصاً أخرى يجريها الأطباء وتشكك في أن هذه الفحوص لا صلة لها بما يعانيه في عينيه وطلب اخراجه من المستشفى .

كانت إمارات الخلل النفسي والعقلي قد بدأت تظهر بكل وضوح. وبدأ ذلك يتجلى فيما قيل إن كتابات كتبها في السياسة بل وفي الأدب؛ كتب الكتاب الأخضر، وكتب نحن هنا لانقاذ العالم، وكتب غير ذلك .

وأنفق أموالاً باذخة لكي يكتب المعلقون على كتبه. ونجح المال في اصطياد الكثيرين .

وفي مرة أراد القذافي أن يعقد «ندوة عالمية لمناقشة أفكاره» ودعا إليها عدداً من المفكرين والسياسيين من بلاد مختلفة. واذكر أن الدكتور/ عصمت عبد المجيد كان وقتها أميناً للجامعة العربية وأن الدعوة وجهت إليه ووجهت لي أيضاً مع عدد آخر من الكُتّاب من أنحاء مختلفة من العالم. وكان من المدعوين آلان جوبير وزير خارجية فرنسا السابق .

وركبت مع الدكتور/ عصمت عبد المجيد طائرة خاصة هبطت بنا في تونس ومنها ذهبنا بالسيارات إلى طرابلس وقيل لنا إن الندوة ستنعقد في «سرت» وذهبنا إلى سرت وانتظرنا ساعات طويلة ثم جاء العقيد ليسمع حواراً من المدعوين حول آرائه وأفكاره السياسية .

وبدأت الندوة وتحدث القذافي ساعات طويلة - حوالي خمس ساعات - ولم يعط فرصة لأحد للتعقيب أو للكلام، وكان الأصل أن الدعوة موجهة لكي يناقش الحاضرون أفكاره السياسية ويستوضحوا منه ما غمض عليهم. والذي حدث أن القذافي هو وحده الذي تكلم ساعات وساعات ولم يترك دقيقة واحدة لأحد من المدعوين ليتكلم أو يعقب .

وخرجنا من الندوة ونحن ننظر إلى بعض في تعجب .

وصادف أن جوبير - وزير خارجية فرنسا - خرج معنا - الدكتور/ عصمت وأنا - واتجه إلينا قائلاً إنني سأتجه إلى تونس ومنها إلى فرنسا.. أنا لا أستطيع أن أتحمل هذا العبث. فقلت له لننتظر إلى الغد لعل الأمور تتغير، فقال لي بحزم أنتم عرب تستطيعون البقاء أما أنا سأغادر الآن. وبالفعل خرج من قاعة الندوة إلى سيارة أقلته إلى تونس ومنها أخذ الطائرة إلى فرنسا .

وكانت المنظمة العربية لحقوق الإنسان قد أنشئت بعد ذلك وكان من أعضائها المؤسسين المرحوم/ منصور الكيخيا الذي كان وزيراً لخارجية ليبيا ثم استقال لأنه لم يستطع التعاون مع القذافي. وأخذت المنظمة موقفاً ناقداً للقذافي وسياساته وجنونه وعدوانه على حقوق الإنسان .

وفي يوم من الأيام ومن أمام فندق سفير بميدان المساحة في الجيزة اختطف منصور الكيخيا وسيق إلى ليبيا حيث تمت تصفيته دون أن يعرف أحد مصيره، وكان منصور الكيخيا رحمه الله من أفضل رجالات العرب ومن أكثرهم إيماناً بالحرية وبحقوق الإنسان. ودفع ثمن ذلك حياته .

وتزايد خلل معمر القذافي يوماً بعد يوم إلى أن أصبح في نظر نفسه ملك ملوك أفريقيا ورئيس كل العرب .

وهكذا يتأكد أن الديكتاتورية لا تأتي بخير قط .

فهل يتعظ الآخرون .