ضوابط الديمقراطية التونسية

TT

أزهر الربيع العربي ديمقراطيته الأولى في تونس، فيما يمثل اعترافا بريادة هذه الدولة المتوسطية للانتفاضة العربية على التسلط والاستبداد والتوارث الديكتاتوري للسلطة.

قد تكون أهم إنجازات أول انتخاب برلماني حر في تونس منذ الاستقلال أنه جرى أولا، وجرى في ظل نظام انتخابي نسبي ضمن تمثيل كافة ألوان الشارع الحزبية، وحال في الوقت نفسه دون تفرد حزب ما بأكثرية مطلقة تحوله، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الديمقراطية التونسية، إلى حزب سلطوي «دستوريا».

مراعاة التنوع ضمن البوتقة الديمقراطية الناشئة في تونس هي الرسالة الأبرز للبرلمان الجديد، مما يعني ضمنا تجنب الأحادية الحزبية في حكم البلاد لصالح حكومة ائتلافية تجمع معظم القوى السياسية القادرة على بناء دولة ديمقراطية قد تصبح، هي أيضا، مثالا رائدا لديمقراطيات «الربيع العربي».

ردود الفعل الأولية للحزب الأوسع تمثيلا في البرلمان الجديد، حزب «النهضة» الإسلامي، وتحديدا حديثه عن أهمية «التوافق» وأولوية «الحكومة الوطنية» في هذه المرحلة، تبرر التفاؤل بإدراكه أبعاد الرسالة السياسية للناخب التونسي: احترام التعددية السياسية للمجتمع ورفض التفرد الحزبي في حكم البلاد.

وفي هذا السياق لا بد من التذكير بأن الناخب التونسي لم يستند، في خياره الانتخابي الأحد الماضي، على تجارب أحزابه في الحكم (وجلها كانت أحزابا ممنوعة ومضطهدة في العهد البائد) بقدر ما استند على سجلها النضالي في مقاومة ديكتاتورية العهد البائد. والقسط الذي تحمّله حزب النهضة الإسلامي من هذا الاضطهاد أسهم في تعزيز العطف الشعبي عليه في انتخابات لم تغب عنها رغبة الناخب التونسي في «تعويض» الأحزاب التي عارضت النظام الديكتاتوري على سنوات القهر والاضطهاد.

ولكن إذا كان احترام التعددية رسالة الانتخابات التونسية الأبرز، فإن النظام الديمقراطي الناشئ لا يخلو من ضوابط ذاتية يفرضها واقع تونس الاجتماعي والاقتصادي.

على الصعيد الاجتماعي تبقى تونس الدولة العربية الوحيدة التي اختبرت العلمنة وطبقتها عمليا لأكثر من خمسة عقود متتالية مما أتاح ترسخ تقليد فصل الدين عن الدولة في حياتها السياسية. ورغم أن نظامي الرئيسين السلطويين السابقين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، توسلا المحافظة على الوجه العلماني لتونس ذريعةً لضرب الديمقراطية السياسية (بداعي الخوف من انقضاض المتشددين الإسلاميين على النظام) فقد ترعرعت شريحة واسعة من التونسيين في ظل العلمنة وأصبحت أسلوب حياة الأجيال الشابة منهم.

وفي هذا السياق يمكن أيضا إدراج تأثير «الأجواء الفرنسية» على قطاع واسع من التونسيين ليس بداعي الجوار الجغرافي بين البلدين ولا التراث الثقافي الذي خلفه الاستعمار الفرنسي، بل بحكم وجود جالية تونسية كبيرة في فرنسا لا تزال تتفاعل في علاقاتها العائلية والاجتماعية مع وطنها الأم.

إلا أن العامل الأكثر ضغطا على العهد التونسي الجديد سيكون العامل الاقتصادي، ففي وقت يتجاوز فيه عدد العاطلين عن العمل السبعمائة ألف شخص، يغوص اقتصاد تونس في متاعب ينوء بحملها دون مساعدة خارجية ملموسة، مما يفرض عليه التوجه إلى الجهة الأكثر استعدادا لمساعدته ماليا واقتصاديا، أي فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي - الأمر الذي لمحت إليه بعض قيادات الأحزاب العلمانية في حديثها عن «التوجه المتوسطي» لتونس.

والواقع أن «الضوابط الاقتصادية» لا تعود إلى الوضع المتردي، حاليا، للاقتصاد التونسي بقدر ما تعتبر جزءا لا يتجزأ من الواقع التونسي، فمعظم تبادلات تونس التجارية تتم مع الدول الأوروبية، وقطاع دخلها الأساسي، أي السياحة، قائم على السياح الأوروبيين والغربيين قبل غيرهم.

لا جدال في أن ديمقراطية تونس تعني تحرير المواطن التونسي من القهر والكبت والاضطهاد.. ولكنها لا تستتبع، بالضرورة، تجاوز تونس واقعها العلماني ومصالحها الاقتصادية، الأمر الذي يفترض أن يظل مفهوم «الوحدة الوطنية» والحكومات الائتلافية الإطار «الوطني» لديمقراطيتها.