ربيع العرب بين الإسلاميين والمدنيين

TT

بدأت حركات التغيير العربية في تونس وليبيا ومصر، تتكشف عن عوامل وخصوصيات وأبعاد وآفاق، تظهر مكتوما كبيرا وكثيرا، لكنها ترسم في الوقت نفسه حدودا وتشابكات بين المدني والديني ما عرفناها من قبل ولا توقعناها. ويرج

ور الشاسع منذ عقود وعقود، فضاع علينا المقياس الذي كان يمكن استعماله في التحرير والتصحيح والتعديل. ثم إن شباب الجمهور الذين نزلوا للشارع في الأيام والأسابيع الأولى ما رفعوا غير الشعارات الجامعة والعميقة والتي يستجيب لها السواد الأعظم: الحرية والكرامة والعدالة ومكافحة الفساد.. وإسقاط النظام.

وقلنا وقتها إن هذه الحركية الجماهيرية أسقطت الثنائية المأساوية: استبداد - تمرد أو تطرف إسلامي. إنما إذا كان الاستبداد طبقة واحدة وإن تعددت مستوياتها (فاستبداد بن علي، أو حسني مبارك ألطف قليلا من استبدادات القذافي والأسد وعلي صالح!)؛ فليس كذلك الطرف الإسلامي من المعادلة. فالذي سقط في مقابل الاستبداد هو الانتحارية الراديكالية باسم الإسلام، وليس ما صار يعرف منذ السبعينات من القرن الماضي بالإسلام السياسي. وقد كنت أرى أن هذا الإسلام السياسي لا تكمن خطورته في سلوكه أو تجربته، بل تبدو في نظريته السياسية، والتي تتغيا تأسيس نظرية للسلطة أو مرجعية باسم الحاكمية (الإلهية)، وتستخدم شعارات في الشارع الانتخابي مثل: الإسلام هو الحل! وهذا يعني استخدام الدين في الصراع على السلطة، مما يؤدي إلى تشرذم في الدين، وعرقلة لقيام الدولة المدنية الديمقراطية.

لذلك فقد اعتبرت أنه لا بد من عمل نقدي وجاد لإخراج الدين من بطن الدولة، والسلطة من عقل الدين! وهذا الأمر كله قائم على نموذج بدئي أو مثالي (على طريقة ماكس فيبر)، يتفاوت حضوره على المستوى الواقعي. فالحضور القوي للنموذج ظاهر في مصر، وظاهر في ليبيا. لكنه يتراجع نسبيا في الأردن، ويتراجع كثيرا في اليمن وسوريا وتونس. إن الحضور الشعبي للإسلام السياسي يتأثر بأوضاع الإسلاميين في البلدان المختلفة، في العقود الأربعة الماضية، كما يتأثر بمواقع وسلوكيات الإسلاميين بعد قيام الثورات. فكل أشكال التدين (من الصوفي إلى الجهادي) ازدهرت في ليبيا، بسبب موقف العقيد القذافي من السنوسية ومن الدين بشكل عام. إنما الليبيون لا يملكون تشكيل نموذج، وهم يتأثرون في ذلك بمصر؛ وبخاصة في البيئتين: الإخوانية والسلفية. ورغم التجربة السياسية الطويلة للإخوان المصريين (المشاركة في النقابات والانتخابات النيابية)؛ فإن حيويتهم الفكرية توقفت في التسعينات من القرن الماضي، كما أنهم لا يملكون قيادات كارزماتية بارزة. وقد صاروا في العقدين الأخيرين شديدي المحافظة، وأشبه ما يكون بأحزاب اليمين الأوروبي الجديد، وقد ظهر لديهم تسلف في الاعتقاد (انظر دراسة حسان تمام).

إنما ذلك لا يعني أن جمهور «الإخوان» بشكل عام قد تناقص. إذ ظلوا هم حزب المعارضة الرئيسي في 10 بلدان عربية على الأقل. وما تطور فكر «الإخوان» الأردنيين والفلسطينيين كثيرا، لاستيلاء التسلف عليهم أيضا، وللحياة الكفاحية التي قادوها ولا يزالون في فلسطين. ويمكن قول الشيء نفسه عن اليمن. لكن الثورة اليمنية الطويلة هذا العام أنتجت تيارات شبابية هائلة الاتساع، ما عادت تلتزم بالحزبيات أو بالسلفيات. وتوقف حراك «الإخوان» في الداخل السوري للظروف المعروفة منذ الثمانينات، لكنهم تطوروا كثيرا في الخارج الأوروبي والأميركي إذا أمكن الحكم عليهم من خلال بياناتهم. ولحركة النهضة التونسية خصوصية، بسبب خصوصية الوضع التونسي بالذات. فقد منعت من العمل السياسي بعد إجازة قصيرة أوائل أيام بن علي، وذهب أعضاؤها إلى المنافي والسجون.

لكن المثقفين التونسيين البارزين أظهروا غيابا في الوعي والمسؤولية. فقد انصرفوا عبر العقدين الماضيين إلى الحملة على الإسلام الأصولي وصولا إلى الإسلام نفسه، بينما انصرف راشد الغنوشي ومشايعوه إلى تطوير طروحاتهم باتجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان ومصارعة الاستبداد. وتأخر أهل النهضة في الدخول على خط الثورة، لكن التونسيين الفقراء والريفيين ما نسوا لهم نضالاتهم، ولا نسوا مصارعة المثقفين الدونكيشوتية للإسلام بدلا من مصارعة الاستبداد. ثم إن أهل النهضة أظهروا تلاؤما بارزا مع القيم المدنية بعد الثورة، وما خاضوا في المهاترات التي حاول «التقدميون» جرهم إليها. ومن ضمن تلاؤمهم وإدراكهم لوقائع الزمن الجديد استقبالهم لدعوة أردوغان إلى الدولة العلمانية، في حين أنكر «الإخوان» المصريون ذلك عليه.

أما في ليبيا فإن الاختلاف أو التمايز على سبيل المثال بين مصطفى عبد الجليل (رئيس المجلس الانتقالي)، ومحمود جبريل (رئيس المكتب التنفيذي)، يكشف عن وعي وثقافة مختلفين، أكثر مما يكشف عن نموذجين أحدهما إسلامي والآخر علماني أو حديث. فالليبيون يميلون في جمهورهم العام بعد نموذج القذافي المضطرب والجنوني إلى المحافظة والتقليدية، وليس إلى الأصولية. وهذا هو الانطباع الذي يريد مصطفى عبد الجليل إعطاءه (مسألة الربا، ومسألة تعدد الزوجات!)، بينما يرى محمود جبريل في الخلاص من القذافي فرصة لإنشاء الدولة الحديثة في ليبيا الغنية والعصرية. لقد سقطت النخبوية والكارزماتية، والليبيون محتاجون للعودة أولا إلى عيشهم العادي، وعندهم الآن مشكلتان أخريان غير السلاح الفالت بأيدي الشباب: الجهوية والقبلية، والوقوع بين نموذجي مصر وتونس.

والوضع في مصر يزيغ الأبصار والأفئدة. فـ«الإخوان» أيضا بقيادتهم الحالية يميلون إلى المحافظة، ويأملون أن يضيفوا إلى جمهورهم الحزبي، المواطنين المتدينين الذين يطمحون للاستقرار، ليس بسبب حنينهم إلى عهدي مبارك والسادات، بل لحنينهم للحياة العادية والمنضبطة، ولخوفهم من الفوضى وانعدام الأمن. ويتساوى الثوريون المدنيون مع «الإخوان» في الشراهة الهائلة للسلطة بكافة مستوياتها. ثم إنهم فيما عدا الشعارات العامة، يفتقرون إلى البدائل والخيارات الواضحة. والأمل بشباب «الإخوان»، وأحزاب الوسط المدني، الذين يستطيعون السعي لاستحداث أو تطوير قواسم مشتركة. وفي عودة سريعة إلى سوريا؛ فإن الآمال أكبر في الثورة فيها. فمثقفو الحداثة شاركوا في الثورة ولا يزالون، وهم يشكلون الغالبية في المجلس الوطني المتكون. إنما يكون عليهم تجنب الخطأ الذي وقع فيه المثقفون التونسيون العلمانيون الذين قدموا من قبل اعتبارات الصراع مع الإسلاميين على الصراع مع الاستبداد. وها هم في المجلس الوطني يتنافسون مع «الإخوان» وسينافسهم الإخوانيون في المسألتين: مفاهيم الدولة الحديثة، والعلاقة بالجمهور. ويكون عليهم التركيز على العلائق بالجمهور الذي وضعهم في طليعته، أكثر من التركيز على الهرب من تهم الأصولية والسلفية وما شابه. وعليهم أن لا يأبهوا لابتزازات مثقفي أوروبا وسياسييها، ولا لابتزازات مدنيات وعلمانيات الأقليات ذات الطابع العدمي أو الانقسامي.

يتقدم أهل الإسلام السياسي في كل مكان لشغل الأدوار التي كانوا محرومين منها. ولن يؤثر ذلك على الدولة المدنية التي يراد بناؤها، بل إن مفاهيمها تقدمت وتتقدم في كل مكان. والخوف أو التوجس من هذا الصراع الضاري على السلطة في مصر وليبيا على الخصوص. ويبقى عنصر الأمان في ذاك الجمهور الذي لن يخرج من الساحات، كما قالت توكل كرمان، إلا بعد سقوط النظام وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.