في السياسة.. الخطأ أشد عاقبة من الجريمة

TT

أعلم أنني عندما أقول هذا، سيتهمني البعض بالعاطفية وربما بما هو أسوأ من ذلك، ورغم ذلك فإن مشاهدتي لمقاطع الفيديو التي توضح اللحظات الأخيرة من حياة القذافي، أصابتني بالانزعاج. إنني لا أملك جهاز تلفزيون ونادرا ما أشاهده. لهذا، قد أكون نجوت من رؤية لقطات مزعجة. لكنني، ولسوء الحظ أجبرت على أن أشاهد تلك اللقطات لأن «هيئة الإذاعة البريطانية» أرادت أن تجري معي حوارا حول نهاية العقيد.

لكن، لماذا شعرت بالانزعاج؟

إنني لم أكن يوما من محبي العقيد، بل إنني كنت من أوائل الذين اكتشفوا طبيعته المخادعة. (كما نُشر أول مقالة لي انتقدته فيها في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1970). وعندما كنت أجري حوارا معه، لم يكن حوارنا وديا على الإطلاق. كما كنت أيضا من أوائل الأشخاص الذين دعموا الثورة الليبية.

بيد أن رؤية القذافي وهو يعامل كما الكلب الجريح، ويطلق عليه النار، حتى وإن كان هذا ببندقية ذهبية، جعلتني لا أشعر بالارتياح. وفي الوقت الذي عكرت فيه تلك الصورة صفوي تسببت في ملازمة صور أخرى من الماضي السحيق من الصحف والمجلات لمخيلتي. كان بعضها صورا لجثث قادة أجلاء وصلوا إلى نهايات بائسة، والبعض الآخر صور عظماء دهستهم عجلة الحظ.

ونظرا لأن جميع تلك الصور كانت لقادة مسلمين، فقد بدا لي أن مصير القذافي، ليس استثنائيا، بل كان نموذجا حددته عقود من العنف السياسي.

كانت هناك صورة للنقراشي باشا، رئيس وزراء مصر الذي قام الإخوان المسلمون بقتله، وكذلك صورة للإمام يحيى من اليمن، وهو ضحية أخرى للإخوان.

وفي صفحة أخرى كانت هناك صورة لحسني الزعيم، أول ديكتاتور عسكري مستبد في سوريا ثم سامي الحناوي، الرجل الذي قتله قبل أن يُقتل بدوره.

وفي صفحة أخرى من ألبوم الصور هذا وجدت عبد الله بن الحسين، الأمير المؤسس لإمارة شرق الأردن، الذي قتل في مسجد.

كما كان هناك العديد من صور الجثث مثل جثة الملك فيصل، ملك العراق الشاب وخاله عبد الإله، علاوة على نوري السعيد، رئيس وزرائه. وكذلك الجثة الممزقة لعبد الكريم قاسم، الرجل الذي أمر بهذه المذبحة.

بعد ذلك نجد الجثة المتفحمة لعبد السلام عارف الجميلي، الرجل المسؤول عن مقتل قاسم.

أما الصورة التالية فلإبراهيم الحمدي وأحمد العيشمي، وهما رئيسان يمنيان تم قتلهما على التوالي.

ومن ذا الذي يستطيع أن ينسى صورة أنور السادات، الرجل الذي منح مصر انتصارا غير كامل خلال فترة حكمه، أو صورة محمد بوضياف، الرئيس الجزائري الذي تم إطلاق النار عليه كما الفريسة في موسم الصيد؟

وبالعودة إلى العراق، الذي قد يكون أكثر البلاد العربية ابتلاء بالعنف، نجد صورة صدام حسين مشنوقا، متروكة حتى تجف.

ولم يقتصر ألبوم الصور المرعبة على البلاد العربية وحسب. بل كان هناك صورة لجثة عدنان مندريس، رئيس وزراء تركيا، وهو يتدلى من حبل المشنقة. وفي الصفحة التالية، توجد الجثة الممزقة بفعل الرصاص لأمير عباس هوفيدا، رئيس وزراء إيران الأطول مكوثا في الخدمة. ثم نجد صورتي الجثتين المتفحمتين لمحمد علي رجائي، ثاني رئيس للجمهورية الإسلامية ورئيس وزرائه محمد جواد باهنر.

يليها صورة جثة حافظ الله أمين، الرئيس الاشتراكي لأفغانستان، الذي أمطروه بوابل من الرصاص. وتتجسد قمة الرعب عند النظر إلى جثة محمد نجيب الله، آخر رئيس اشتراكي لأفغانستان، التي أخصيت وقطعت إربا.

وفي ألبوم الصور المروع هذا يمكننا أيضا أن نجد جثة ذو الفقار علي بوتو، رئيس الوزراء الباكستاني المشنوق وبعدها جثة الرجل الذي أمر بعملية الإعدام هذه اللواء محمد ضياء الحق، الذي لقي حتفه عندما انفجرت طائرته في الجو.

ولا تقص تلك الصور الرواية بأكملها عن السياسات في العالم الإسلامي. فهناك فصل آخر ممتلئ بقصص النفي: حيث يتقلد الشخص، في هذا العالم الإسلامي المزعوم، السلطة اليوم ونجده في المنفى في اليوم التالي.

ولقد رأينا شاه إيران، بعد أن تم نفيه خارج وطنه، ووجدناه قد طرق جميع الأبواب حتى مات في القاهرة أسيف الخاطر. وقد نجد أشخاصا منفيين أكثر حظا في مقاهي باريس وفيلات ويمبلدون، يخططون للعودة إلى الوطن لكنها عملية شديدة التعقيد.

لكن الواضح أن ألبوم الجثث لدينا مليء برجال جيدين وسيئين وربما وحوش، في بعض الأحيان. وقد استحق البعض هذا المصير الذي آل إليه، إلا أن البعض الآخر لم يستحقه. لكن في جميع الأحوال كانت النهاية حتمية، تتحدى العقل والمنطق والقانون، وهي عناصر من دونها لا توجد حضارة.

ويتمثل السؤال في: ألم نجد آلية أخرى لإحداث التغيير؟ وبصورة تقليدية، كان السم الذي تدسه المحظيات أو الخنجر أكثر الأساليب المستخدمة شيوعا في عمليات الاغتيالات. وقد اعتاد السلاطين العثمانيون والشاهات الصفويون على إعماء إخوتهم لحماية أنفسهم، ونادرا ما كانوا ينجحون في ذلك.

لم يعترف القذافي بأي آلية للتغيير ولم يسمح لأحد أن يشكلها. وعندما أصبح الاختيار المتاح أمامه إما الموت أو النفي، سخر من الأول واعتقد أن الثاني سيكون متاحا حتى اللحظة الأخيرة. إلا أنه كان مخطئا. وقد حاول عبد الله واد، رئيس السنغال وجاكوب زوما، رئيس جنوب أفريقيا الدعوة إلى فترة انتقالية يمكن خلالها أن يتنحى العقيد ويسمح بحكومة انتقالية تتضمن واحدا من أبنائه على الأقل. وكذا فلا توجد آلية للتغيير لدى من يلقب نفسه «المرشد الأعلى». على الرغم من أن نظرة سريعة لخارطة العالم الإسلامي توضح أن أكثر الدول استقرارا هي التي يوجد بها آليات واضحة ومحددة للتغيير، فمن المستحيل تخيل مجتمع إنساني، تغيب عنه الرغبة في التغيير طوال الأوقات. وقد يحاول القادة الحكماء تحويل التغيير لمصلحة حلفائهم، خشية أن يصبحوا أعداءهم، أو قاتليهم، في نهاية المطاف. غير أن البعض مثل بشار الأسد، في سوريا، وعلي عبد الله صالح، في اليمن، وعمر البشير، في السودان، وعلي خامنئي، في إيران يرفضون فهم هذه الحقيقة البسيطة في الحياة السياسية.

ويعد رفضهم هذا أكثر سوءا من جريمة؛ إنه خطأ.