تونس والربيع العربي

TT

بما أن تونس هي الأكثر تقدما في علمانيتها فإنها الأكثر تقدما حتى في أصوليتها! أو قل بأن أصوليتها هي الأكثر استنارة والأقل ظلامية من بين كل الأصوليات العربية. هكذا نلاحظ أنها رائدة على كلتا الجهتين: العلمانية والإسلامية. لقد تمخض الربيع العربي الذي هو تونسي أصلا عن الانتصار الواضح لحركة النهضة الإسلامية. وينبغي أن نقبل بالنتيجة كما فعل الحزب العلماني التونسي بكل أريحية وحس ديمقراطي: أقصد الحزب الذي يقوده كل من الأستاذ أحمد نجيب الشابي والسيدة مية الجريبي.

ولكن يبدو أن السقف الفكري - السياسي الذي تسمح به اللحظة التاريخية الراهنة للعالم العربي هو ما يمثله التيار الإسلامي المنفتح على الطريقة التونسية. وإلا فلتأخذوا طالبان وما أشبههم! فهل هذا ما تريدون؟ اقبلوا بما تستطيع اللحظة التاريخية أن تعطيه أو تسمح به. أما التنوير الكامل، أي التنوير الحقيقي، فلن يحصل إلا لاحقا وعلى مراحل. هناك الممكن في تاريخ الفكر وهناك المستحيل. وما هو مستحيل اليوم قد يصبح ممكنا غدا.. وبالتالي فإني أشارك المفكر القانوني الكبير عياض بن عاشور تفاؤله بالحالة التونسية حتى بعد انتصار النهضة. إنها حالة صحية لا مرضية. فالصراع الجدلي الخلاق بين كلا التيارين الكبيرين يبتدئ الآن على أرضية مفتوحة، ديمقراطية. على العكس من ذلك فإن الحالة المصرية والمشرقية عموما تشعرني ببعض القلق دون أن أتخلى عن تأييد الربيع العربي والاعتراف بضرورته ومشروعيته التاريخية.

لقد سارع قادة النهضة إلى التصريح بأنهم سيضمنون الحريات العامة وحقوق المرأة ولن يتراجعوا عن قانون الأحوال الشخصية الذي سنه بورقيبة والذي هو الأكثر تحررا في كل أنحاء العالم العربي. فماذا تريدون أكثر من ذلك؟ كما رحبوا بالتعاون مع الأحزاب اليسارية أو العلمانية التي تقبل بالتشارك معهم لقيادة تونس الجديدة. وإذا ما نفذوا عمليا تصريحاتهم هذه فلا أعرف لماذا نظل نلاحقهم بتهمة الأصولية والعنف والإرهاب؟ لننتظر ونر.. العالم كله يركز أنظاره الآن على التجربة التونسية التي قد تصبح مختبرا لكل العرب.

هناك أصولية منفتحة وأصولية منغلقة. وللحق والإنصاف ينبغي التفريق بينهما. ففي الوقت الذي صرح فيه مصطفى عبد الجليل بأنه سيعيد قانون تعدد الزوجات إلى الساحة بعد أن ألغاه القذافي يؤكد قادة النهضة منعه. ولكن قائد المجلس الانتقالي الليبي سرعان ما تراجع عن كلامه. ولكي نعذر هذا الرجل التقليدي الورع ينبغي الاعتراف بأن ليبيا خارجة من أكبر خضة في تاريخها وهي مثقلة بالجراح. وبالتالي فهي بحاجة لأن تلتقط أنفاسها وتضمد جراحاتها. أعطوها المهلة الكافية لكي تتنفس الصعداء بعد أربعين سنة من حكم قراقوش الطغياني. وكذلك بعد حرب أهلية طاحنة أنهكت البلاد والعباد. هذا لا يمنع التعاطف الإنساني مع السيدة صفية فركاش التي فجعت بنصف عائلتها دفعة واحدة. فهي تظل سيدة عربية مسلمة تستحق الاحترام. وليست مسؤولة عن سياسة زوجها ومغامراته الطائشة الرعناء. لا ينبغي أن نسقط في التطرف المعاكس. والخطأ السابق لا يبرر الخطأ اللاحق.

لقد كان موضوع المصالحة بين الإسلام والحداثة شغلنا الشاغل طيلة ربع القرن الماضي واكتشفنا من خلال التجربة والمعاناة والمراجعات أنه ينبغي على كلا الطرفين أن يقدم بعض التنازلات. فالطرف الإسلامي مدعو لأن يقدم تنازلات مهمة للحداثة والاعتراف ببعض إيجابياتها التي لا تنكر والتي لا يمكن للنهضة الإسلامية أن تتحقق من دونها. ويقف في طليعتها الفكر النقدي الحر وعدم التسليم بشيء قبل تمحيصه من قبل العقل اللهم إلا فيما يخص الإلهيات والماورائيات الميتافيزيقية التي تتجاوز العقل. والتيار التنويري المحض مدعو أيضا للاعتراف بالقيم الروحانية والأخلاقية السامية للدين وأنه يشكل القاعدة الصلبة والهوية الراسخة للشعب. من هنا نبدأ.. كما أنه مدعو لنقد تطرفات الحداثة وانحرافاتها وشططها دون أن يتخلى عن أعظم ما أنجزته وحققته على مدار القرون الأربعة الماضية. وهي كثيرة وعظيمة ولا تزال مجهولة من قبل الجمهور العربي الإسلامي.. وإذا ما مشي كلا الطرفين خطوة أو خطوتين باتجاه الآخر فإن المجتمع سيشعر بالتوازن والارتياح والخير سينعكس على الجميع. وربما توصلنا إلى المنهج الصحيح المؤدي إلى الخلاص.

من يعلم؟ قد يكون كلامي هذا ملائكيا أو خياليا أكثر من اللزوم. قد يكون تمييعا للقضايا ذات الإشكالية ومحاولة للمصالحة بأي ثمن، أنا المتهم بالمواقف الراديكالية والتفجيرية.. فالواقع أن الصراع بين الطرفين سوف يستمر حتى بعد انتصار النهضة وغير النهضة. ولكن لم لا؟ أليس الصراع الجدلي الخصب بين العقل الديني والعقل الفلسفي هو طريق التطور والتحلحل؟ ألم يخترق التاريخ البشري من أوله إلى آخره؟ ألم يكن تعطيله منذ دخولنا في عصر الانحطاط وهزيمة المعتزلة والفلاسفة وإغلاق باب الاجتهاد سبب ديكتاتورية الرأي الواحد والمذهب الواحد وهيمنة الاستبداد والتخلف والجمود؟ لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ لقد عشنا طويلا خارج التاريخ في متاهات غيبية استلابية درويشية بعد تكفير العلم والفلسفة. وقد آن «لأهل الكهف» أن يستيقظوا!