البلد العظيم وقادته.. في قلب العالم

TT

كانت وفاة ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز تجديدا قويا وموسعا للوعي والذاكرة بعظمة هذا البلد (المملكة العربية السعودية) ومكانة قادته. فالأمير سلطان هو أحد أركان هذه الدولة وصناع القرار فيها، وأحد مهندسي مسيرتها على مدى أكثر من ستة عقود. ففي هذه الحقبة المتطاولة لم يُتخذ قرار سياسي، أو عسكري أو أمني أو اقتصادي أو علمي أو إداري أو اجتماعي أو إنساني، إلا كان الأمير سلطان حاضرا في صميمه.. تضاف إلى ذلك أعماله الخيرية العديدة. ومن هنا كانت وفاته بمثابة استفتاء على وزنه ومكانته الشاهقة على المستوى الوطني. تبدى ذلك في الحشود الوطنية التي زحفت على الرياض لشهود الصلاة عليه في جامع الإمام فيصل بن عبد الله، وتقديم العزاء فيه في قصر اليمامة (والكاتب شاهد حاضر على الزحام الذي لا نظير له). ولما كانت الرياض ستضيق - حتما - بهذه الزحوف الآتية من عموم مناطق المملكة، فقد وجه الملك عبد الله بن عبد العزيز بصلاة الغائب على فقيد البلاد: في الحرمين الشريفين، وفي سائر جوامع المملكة ومساجدها.

هذا عن الساحة الوطنية.. أما على المستوى العالمي فقد غدت الرياض «ساحة عالمية» تستقبل زعماء العالم ورؤساءه (مسلمين وغير مسلمين)، الذين وفدوا إلى هذه العاصمة المهمة ليؤدوا العزاء في الأمير سلطان:

أولا: لأن للفقيد الغالي حضورا فاعلا، ومكانة سامقة على المستوى العالمي. فقد عرفه العالم ممثلا لبلاده في محافل عديدة. كما عرفه العالم من خلال الزيارات الثنائية المتبادلة مع عشرات الدول في قارات الأرض كلها، وعرفه العالم العربي الإسلامي - بوجه خاص - وجها عربيا إسلاميا مشرقا من وجوه العمل العربي الإسلامي الجاد الصادق المثابر، وفق منهج الاعتدال والسماحة الذي تتبناه السعودية.. وكما عرفه العالم من خلال «فعله»، عرفه من خلال «قوله» الذي يعبر عن ذلك الفعل. فمن أقوال فقيدنا الكبير: «خدمتنا للسلام العالمي نابعة من عقيدتنا للإسهام في خدمته بهدف تجنيب البشرية ويلات الحروب والدمار».

ثانيا: لأن المملكة العربية السعودية ذات مكانة عالمية كبرى، وذات «حضور فاعل» في العالم كله:

1) هذا هو موسم الحج الأكبر قد أظلنا، وأخذ الحجاج المسلمون من كل جنس وبيئة يتوافدون لأداء هذه الفريضة، أو أداء الركن الخامس من أركان الإسلام.. فأين يؤدى هذا الركن الخامس الجليل؟.. في الوعاء الجغرافي للمملكة العربية السعودية. فقد شاء الله - بعلمه وحكمته وقدرته - أن يكون المسجد الحرام في هذه البلاد - حيث الطواف حوله، وحيث السعي بين الصفا والمروة - وأن يكون الحج الأكبر في عرفة، وأن تكون سائر المناسك في هذه البقعة المباركة. ولذا كانت هذه البلاد مفتوحة عالميا بـ«النص» لجميع المسلمين من كل الأعراق والبيئات: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ».

وهذا الاختيار الرباني لهذه البلاد لتكون موئلا لبيت الله الحرام كان «كونيا» منذ البدء.. ثم دينيا بشرع الحج فيه وحوله، والتوجه إليه في الصلاة.. نعم. هذا الاختيار الرباني كان عند بدء خلق الكون: في ذلك الزمن القصي. فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض.. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة».. والنبي الذي أخبرنا بذلك (صلى الله عليه وسلم) هو الذي ابتعثه الله - جل ثناؤه - رسولا نبيا خاتما في هذه الأرض، حيث تلقى الوحي من ربه، وبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأقام دولة الإسلام في المدينة حيث مسجده الشريف الذي تشد إليه الرحال.. من هنا، فإن هذا بلد عظيم - جد عظيم - بهذه «المكانة الروحية الفريدة» التي لا تتكرر في بلد آخر قط - ولله الحمد والمنة.

2) وهذا البلد عظيم المكانة بحكم علاقاته المبصرة مع العصر، وانفتاحه الواثق على العالم. فهاتان الخاصيتان الأصيلتان هما من أقوى وألمع وأنفع الخصائص التي بنى عليها الملك عبد العزيز - رحمه الله - دولته المكينة هذه. ففي ضوء منهج الإسلام الحق الذي يرتفقه، قرر الملك عبد العزيز الانفتاح على عصره وعالمه، في غير جمود يعطل المصالح، ولا ذوبان يميع المبادئ. فالمظنون - جهلا - بالدولة الإسلامية أنها دولة منغلقة ذات علاقة متوترة مع العالم، على حين أن الدولة التي تفهم الإسلام على حقيقته تحقق أهدافها وأهداف الأسرة البشرية من خلال توغلها البصير الواثق في النسيج البشري العالمي: أخذا وعطاء وتبادلا وتعاونا. وكذلك فعل الملك عبد العزيز في علاقاته الحيوية النافعة بعصره وعالمه.. ونحن نجزم بأن هذا المفهوم النير في العلاقة الدولية لم يستمده الملك عبد العزيز من أي مرجعية أخرى غير مرجعية الإسلام، ذلك أن في المرجعية الإسلامية ما يكفي ويفيض في هذا المجال. فمن الأسس التي أرساها الإسلام في العلاقات الدولية: أساس وحدة الجنس البشري.. وأساس تنوع الأعراق واللغات.. وأساس تعدد الشرائع والمناهج.. وأساس التعارض الإنساني المفضي إلى التفاهم والتعاون.. وأساس محبة الخير والسعادة لكل إنسان.. ومساحة المقال لا تتسع للنصوص القرآنية التي تبرهن على هذه الأسس وتؤصل لها.

وهذه الركائز السعودية المستنيرة الهادفة في العلاقات الدولية قد استصحبها خلفاء المؤسس الذين تولوا أمر الدولة بعده، بدليل أن العلاقات بين السعودية ودول العالم قد زادت حجما، وتعمقت كيفا.. مثال ذلك: أن الملك عبد الله بن عبد العزيز قد فتح نوافذ جديدة مع عالمنا وعصرنا.. وكنموذج لذلك، طرح الملك برنامجا عالميا يحمل اسمه وهو «برنامج الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للثقافة والحوار». ولا غرو فهو رجل ذو رؤية عالمية إنسانية منفتحة متطلعة إلى عالم إنساني أكثر أمنا وسعادة، وأقل اضطرابا وتعاسة.

3) ومن وجوه عظمة هذا البلد، وصور مكانته الدولية، أنه بلد يزخر - بحمد الله - بثروات هائلة تنفع البشرية، وتسهم في تقدمها الإنمائي والحضاري.. وفي طليعة هذه الثروات:

أ) ثروة النفط الكبيرة، سواء في الضخ اليومي، أو في الاحتياطيات العظمى الممتدة طويلا في الزمن الآتي بإذن الله. فما من بلد في هذا العالم، صغر أم كبر، ومهما كانت درجة نمائه وتحضره، إلا وهو يحتاج إلى النفط، وهي حاجة تجعل بينه وبين السعودية جسرا مستمرا من العلاقة القوية المتجددة.

ب) الثروة المالية العائدة من النفط، ومن غيره.. وهذه الثروة المالية يحدثنا التاريخ الاقتصادي للبشرية أنها من أمتن الخيوط في العلاقات الدولية: أمتن الخيوط التي تنسج هذه العلاقة عبر شبكات الاستثمار، وإعادة تدوير رأس المال، وتصعيد عائداته، إلى آخر فنون التصرف الذكي الإيجابي في رأس المال.

لهذا كله رأينا هذا البلد العظيم وقادته في «قلب» العالم، وفي محور اهتمامه وحضوره، بمناسبة وفاة فقيد المملكة الكبير سلطان بن عبد العزيز، رحمه الله.