جثة القذافي كتراجيديا إغريقية

TT

مصرع الديكتاتور الليبي الكولونيل معمر القذافي يثير تساؤلات حول فرصة الليبيين في بناء دولة مؤسسات باتجاه الديمقراطية، خاصة أنها أفضل من فرصتي جيرانهم في تونس ومصر حيث يتعرقل المشروع الديمقراطي على يد نظام لم يتغير في جوهره.

واجهنا «كوكتيلا» من تضارب تصريحات المجلس الانتقالي عن ظروف قتل الكولونيل غريب الأطوار؛ والمجادلات المضحكة المبكية حول مصير جثته والتمثيل بها «كفرجة» لطوابير، بينهم أطفال عادة ما يحميهم المجتمع من مشاهد لا تناسب إلا البالغين في الصحافة والسينما. وسأترك لأطباء سيكولوجية الأطفال تقدير مدى تأثير المشهد على صحتهم النفسية في سنوات النمو.

بعد مطالبة جمعيات حقوق الإنسان والأمم المتحدة بالتحقيق (وطلب أرملته تسلم الجثة لدفنها) تذكرت فصلا من ملحمة هومير، الإلياذة، أثناء حصار طروادة ومقاطع تصف مبارزة بطل الإغريق أخيل لهكتور، أكثر مقاتلي طروادة بأسا.

كان أخيل قد أفقده الحزن صوابه بعد مقتل صديقه وحبيبه باتروكلس على يد هكتور واستيلائه على عتاده.

عندما صرع أخيل غريمه هكتور انتقاما لمصرع باتروكلس، سحب جثته أمام سور طروادة المنيع، وأخذها «غنيمة حرب» إلى معسكر الإغريق قرب الشاطئ.

في المقطع التالي ينشد هومير حزن بريام، ملك طروادة، على مصرع ابنه هكتور، وزيارته لأخيل في خيمته ليناشد المقاتل الشجاع أن يتصرف بشهامة الرجال ويسلمه جثة هكتور كي تذرف أمه وأرملته الدموع أمام الجثمان، وتقام جنازته وفق الطقوس الطروادية.

هومير صاغ ملحمته في نحو 850 قبل الميلاد، والمعتقد أن حرب طروادة سبقتها بأربعة قرون؛ أي أن تراجيديا الانتقام وشهوة عرض جثة الخصم (أو قطع الرأس كغنيمة، أو سلخ الهنود الحمر لفروة رأس العدو المقتول) في النفس البشرية سبقت مسرحيات شكسبير بثمانية قرون، ولم تتغير دوافعها ومحركاتها كثيرا على مدى 33 قرنا.

بمراجعة فيديوهات، أغلبها التقطها مقاتلو المجلس بتليفونات جوالة وضعت على الـ«يوتيوب»، ومن ضمنها لقاء مع شاب دون العشرين يلوح بمسدس القذافي بعد صرعه، نشاهد التراجيديا المثلثة (هكتور المقتول، وأخيل القاتل المنتقم، وبريام المطالب بالجثة) تتكرر في ليبيا.

في الإلياذة لم يجد هكتور مفرا من مواجهة أخيل الذي طارده حول أسوار طروادة؛ وعندما طاشت ضربة هكتور (جسم أخيل المحصن من الأذى باستثناء كعبيه) سقط سيفه، فناشد أخيل أن يعامل جثته باحترام بعد قتله. رفض أخيل قائلا: إنه سيمزق لحم هكتور من عظمه ويأكله نيا انتقاما من الأحزان التي ألهب بها قلبه بعد صرعه باتروكلس.

القذافي واجه المصراتيين الذين طاردوه إلى مخبأ في ماسورة صرف سيول الأمطار، ومثل هكتور، ناشدهم - حسب مرجعيتهم الثقافية - بالالتزام بأخلاق الحرب الإسلامية في معاملة الأسير «ومعرفة الصواب من الخطأ». مصراتة خسرت أكبر الضحايا من قصف قوات القذافي أثناء حصارها، فصمم مقاتلوها على الانتقام الشخصي من القذافي وأولاده بالأحقاد نفسها التي أججت النيران في قلب أخيل. انتقام أنساهم أصول معاملة الأسير (قانونيا، وبثقافة الحرب الإسلامية، وبمنطق محاكمته علنا على جرائمه السياسية والإنسانية) فأوسعوه ضربا، وأرادوا أخذه (كغنيمة حرب) إلى مصراتة. غير المصراتيين أرادوا الاحتفاظ به، فصرع المراهق القذافي برصاصتين «حتى لا يأخذه المصراتيون» كما قال، والغنيمة مسدسه الذهبي (كاستيلاء هكتور على درع باتروكلس المملوك لأخيل). أما نقلهم الجثة لعرضها في سوق اللحم في مصراتة (ثلاجة حفظ الذبائح) فلا يختلف كثيرا عن سحب أخيل جثة هكتور إلى معسكر الإغريق.

ولن أكرر ما ذكره معلقون آخرون عن ضرورة التحقيق بشفافية، إذا أراد المجلس الانتقالي تخفيف الضرر الهائل الذي لحق به من طريقة قتل القذافي وهو أسير (انتهاك لبروتوكول جنيف لمعاملة أسرى الحرب)، خاصة مع تناقض تصريحات المجلس من بنغازي مع ما شاهده العالم من فيديوهات صورها مقاتلو المجلس، فالأمر يتجاوز فقدان المجلس قدرته على الضبط والربط (فما بالك بنزع الأسلحة؟).

السؤال البديهي: ما هي قواعد الاشتباك rules of engagement التي أصدرها المجلس للقادة العسكريين كي يلزموا بها مقاتليهم؟

بعد سقوط طرابلس أصبحت مسألة انتهاء القذافي نفسه، كحاكم لليبيا، مجرد وقت، وهو لا شك أمر أدركه قادة المجلس الانتقالي. ما هي بالضبط التعليمات التي أصدرها المجلس للمقاتلين في حالة مصادفتهم قادة النظام، كأولاد القذافي أو القذافي نفسه؟

أين هي الوثيقة التي تشمل هذه التعليمات، أو محضر الجلسة التي نوقشت فيها، أو تفاصيل المكالمات التليفونية إذا كانت التعليمات صدرت شفهيا؟

أما إذا لم يكن المجلس قد أصدر هذه التعليمات أصلا، فيصبح السؤال أكثر خطورة ويتعلق بكفاءة وصلاحية المجلس لتولي مرحلة الانتقال، حيث يستحق الليبيون، بتضحياتهم وصمودهم وشجاعتهم، قيادة تخطط لكل الاحتمالات وتتعامل مع المفاجآت.

المجلس وزعماؤه لم ينتخبهم أحد دستوريا، ولم يفوضهم أحد قانونيا (كسعد زغلول باشا ورفاقه الذين حملوا عريضة بملايين توقيعات المصريين تخول للوفد التفاوض باسم الأمة عقب ثورة 1919) وإنما وضعتهم الظروف في موقع قدر الليبيون والمجتمع والدولي أنه يعكس الخطوط العريضة لمطالب المتظاهرين في 17 فبراير (شباط)، كإنهاء الديكتاتورية وفرض حكم القانون وبناء المؤسسات الديمقراطية.

الأحد الماضي، أثناء إعلان تحرير ليبيا من الديكتاتورية، فوجئ كثير من الليبيين بما يقلقهم من استبدال طغيان الفرد، بطغيان ديكتاتورية الآيديولوجية.

المفاجأة كانت إعلان الشريعة الإسلامية كأساس لتشريع القوانين وإلغاء أي قانون يناقض تفسير الإسلام السياسي لها (كإلغاء قانون تحريم تعدد الزوجات دون الرجوع إلى ممثلي المرأة في برلمان منتخب مثلا)، أو إلغاء التعامل بأسعار الفائدة كبقية بنوك العالم في وقت تحتاج فيه ليبيا إلى التعامل مع البنوك العالمية لجذب الاستثمار وإعادة البناء وخلق الوظائف.

ولسنا بصدد مناقشة الشريعة الإسلامية هنا بل نناقش ظاهرة قفز مجلس لم ينتخبه أحد على إرادة الشعب (وهي غير محددة المعالم بعد لغياب آليات استطلاع رأي المواطنين) بإعلان مصادر القوانين بدلا من عرض الخيارات على الأمة الليبية في شكل برلمان منتخب، أو عدة استفتاءات على قوانين سيكون لها أكبر الأثر على مصير ليبيا.

هل هي غريزة الانتقام من النظام البائد بكل قوانينه كما فعل أخيل مع هكتور؟

الجثة التي ستسحب هنا كغنيمة حرب ليست جثة القذافي أو نظامه، وإنما حلم الشعب الليبي باللحاق بالقرن الـ21 والنظام البرلماني الديمقراطي التعددي وأساسه حرية الفرد في الاختيار، ليخنق الحلم آيديولوجية تغيب فيها ملامح الفرد وخياراته.