العراق بحاجة إلى قرارات تاريخية

TT

إحدى صفات القائد الرشيد أن يتخذ قرارات صائبة تؤدي إلى إنهاء مشكلة أو تعالج أزمة أو ترفع حيفا أو إجحافا عن شريحة من شرائح المجتمع، هذه القرارات التي يطلق عليها عادة القرارات التاريخية، تكون عاملا مهما في دفع البلد نحو مستقبل باهر، لأنها تتسم بالحكمة والشجاعة، ومن أهم مميزات هذه القرارات «التاريخية»، أنها تصدر عن تعقل وتمحص ودراسة مستفيضة، وتأخذ نصيبها من مشاورات الحكماء وآراء الخبراء، وتمر بلجان متخصصة على مستوى عال من المهنية، مما يعني قرارات متقنة ومدروسة من كل النواحي «كاملة من مجاميعها»، كما هو حال القرار التاريخي الجريء الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين قبل أيام حول مشاركة المرأة في المجالس التشريعية والبلدية، الذي أنصف فيه المرأة ومهد لها الطريق للدخول في الحياة العامة للمجتمع، ومن مميزات القرارات التاريخية الأخرى أنها لا ترتبط بشخص القائد وأهوائه وتقلباته النفسية، ولا تخضع لنزواته وآرائه الشخصية «وهنا تحضرني قصة طريفة كان بطلها (صدام حسين)، ففي إحدى جولاته التفقدية الكثيرة على القرى والمدن العراقية صادف رجلا من عامة الناس، فدار بينهما كلام حول مشكلة اجتماعية يبدو أنها كانت عميقة إلى حد أن صدام لم يجد له حلا، فما كان منه إلا أن التفت إلى حارسه الشخصي وقال له بتهكم: ذكرني باكر أسويلهم قانون!!»، فقرارات من هذا النوع الطارئ الذي يقفز فجأة إلى ذهن القائد ويصدرها بدقائق أو ساعات، تكون نتائجها في معظم الأحيان وخيمة على المجتمع، فإذا كانت القرارات المهمة «المصيرية» تصدر بشكل ارتجالي وغير مدروس من لدن القائد كقرارات الحرب الكثيرة التي كان «صدام» يصدرها، فإن حكام العراق الجدد اليوم عاجزون تماما عن إصدار أي قرار تاريخي أو غير تاريخي من شأنه أصلاح العطب الكبير الذي أصاب العملية السياسية في العراق ويعالج الأزمات الكثيرة التي تواجه المجتمع العراقي، وهذا يرجع إلى أسباب، منها أن القادة الحاليين يفتقرون إلى الشجاعة والجرأة في إصدار القرارات من النوع الذي يحدث في البلد نقلة نوعية ويضعه على أعتاب التقدم، أو أن يكون لتعدد مراكز صنع القرار في العراق دور في عدم وصول القادة إلى أمر جامع يحسم المسائل العالقة، أو أن السبب في الأساس يرجع إلى وجود فجوة كبيرة من عدم الثقة والمصالح المتباينة بين الأحزاب والمكونات المشاركة في الحكم، لذلك نجد القادة الحاليين دائما مترددين في اتخاذ قرارات مصيرية تصب في صالح الشعب، ولا يجدون سبيلا لمواجهة الأزمات الكثيرة إلا بالتوافقات السياسية والمحاصصة والحلول الترقيعية التي لا تسمن وتغني من جوع، فاستمرارهم على هذه السياسة الفاشلة، وعدم قدرتهم على معالجة الأوضاع المزرية بصورة صحيحة، «قد» يمهد الطريق لحدوث نوع من التمرد الجماهيري أو غير الجماهيري للخروج من هذه الحالة العائمة، وإعادة المركزية الشديدة إلى البلاد كما كانت في السابق في إطار سياسة القبضة الحديدية، يعني الرجوع إلى المربع الأول «وكأنك يا أبو زيد ما غزيت» وهذه احتمالية قائمة في أي وقت بسبب طبيعة المجتمع العراقي الميال إلى البداوة والخشونة واللجوء إلى العنف في معالجة الأمور المختلف عليها بشكل عام، بحسب تحليل الدكتور علي الوردي للشخصية العراقية. ثمة قضايا كثيرة مصيرية في العراق تراكمت ووضعت على الرفوف منذ 2003 بحاجة ماسة إلى حلول جذرية، لا تنفع معها أنصاف الحلول والتردد والتأجيل، منها على سبيل الحصر قضية مدينة كركوك التي تكفلت المادة 140 من الدستور بمعالجتها، على الرغم من أهميتها القصوى في استقرار العراق ووحدته ووجوده، فإن القادة الجدد تعاملوا معها بمنتهى الاستهتار والاستخفاف، ولجأوا إلى سياسة التهرب والتسويف والتأجيل، فمنذ أن خرجت هذه المادة من رحم المادة 58 من الدستور المؤقت الذي وضعه مجلس الحكم، ظلت تتأجل من فترة لأخرى ومن رئيس حكومة لآخر ومن لجنة «فاشلة» إلى أخرى أفشل منها، حتى غدت عقبة كأداء على طريق المصالحة الوطنية، وقد تؤدي في المستقبل (القريب ربما) إلى صراعات عرقية لا تحمد عقباها، لا يمكن معالجة أمر بهذه الخطورة بعبارات فضفاضة غير ذات جدوى ظل أقطاب حزب الدعوة الحاكم يرددونها، مثل: لا مساومة على المناطق المتنازع عليها، وأن كركوك ليست للدولة حتى تهبها للأكراد!! أو أن كركوك عراق مصغر لا يمكن التفريط فيه بأي شكل من الأشكال!! نفس المنطق الذي كان يردده النظام الديكتاتوري السابق، وهل كانت كركوك ملكا لـ«صدام حسين» حين وهبها للمستوطنين الذين جلبهم من جنوب البلاد ليستولوا على أملاك الأكراد؟ مشكلة كركوك بالأساس مشكلة قانونية، الدستور وهو أعلى سلطة قانونية في البلاد وضع لها علاجا من خلال بنود قانونية، ما على الحكومة ورئيسها «المالكي» إلا تنفيذ هذا القانون، فعندما لا ينفذون فإن كلامهم عن تطبيق الدستور يصبح مجرد «خرابيط».. وكذلك الأمر بالنسبة لباقي المشكلات الأخرى التي ما زالت تراوح مكانها وتشكل للعراق وجعا دائما، كمجلس السياسات العليا، ومسألة النفط والغاز والوزارات الأمنية ومسألة الفيدراليات وتشكيل الأقاليم، فهم دائما يلجأون إلى تعويمات وخدع كلامية رخيصة لا تقنع مجنونا، فعندما تسألهم عن أزمة مجلس السياسات يقولون: نحن متفقون تماما على المبادئ والخطوط العريضة ولكننا نختلف في «التفاصيل!!»، أو عندما تسألهم عن الوزارات الأمنية الشاغرة، يجيبون: نحن ملتزمون بتوزيع هذه الوزارات على الشركاء بحسب الدستور وبنود اتفاقية أربيل، ولكن: نختلف في «الأسماء!!»، يعني من بين عشرات الأسماء المقدمة لا يوجد بينهم اسم واحد وطني يصلح لهذا المنصب؟ أم أنه دجل وضحك على الذقون؟! كذلك بالنسبة لكل الاتفاقيات والمبادرات التي أبرموها ولم تنفذ واحدة منها لحد الآن، فإنهم ما زالوا يرددون دون خجل أو حياء أن (الموقف الرسمي لدولة القانون هو القبول بكل الاتفاقات والمبادرات واحترامها!) وهكذا هو حال الفاشلين.

* كاتب عراقي