القيادة هي القدرة على اتخاذ قرار مؤلم

TT

ربما يلاحظ القارئ أنني أستشهد كثيرا في عرض أفكاري بلقطات من عمل درامي، مسرحيا كان أو سينمائيا. ليس لأن الدراما هي ما سبق للناس أن قالوه، فهذا يحدث فقط مع الأفكار والأقوال المأثورة والحكم البليغة، أما الدراما فهي توضح بجلاء آسر ما سبق للناس أن فعلوه. والفعل، تماما كما السيف، أصدق أنباء أو إنباء من الكتب. وعندما يثبت في عقولنا ما فعله البشر في تاريخهم الطويل، وما نتج عنه من خير وشر، نصبح أكثر وعيا بأحوالنا وأكثر قدرة على التعامل مع اللحظة، بل ربما نكتسب القدرة على تحصيل قدر من التنبؤ أو الحدس الذي يعيننا على معرفة المستقبل حتى ولو بشكل غير مؤكد.

الإنسان لم يخترع القواعد الدرامية بل استخلصها من مراقبته للحياة من حوله، تماما كما استخلص المعادن من باطن الأرض. أرسطو لم يخترع وحداته الثلاث الشهيرة، وحدة الفعل ووحدة المكان ووحدة الزمان في العمل الدرامي، بل اكتشفها مدفونة في أعماق الأعمال المسرحية الناجحة التي شاهدها، وبعدها بآلاف السنين جاء من يكتشف أنه لا حتمية لوحدة المكان، وأنه يمكن الاكتفاء بوحدة المكان والزمان، وهو أيضا ما عارضه البعض، غير أنه في كل الأحوال وربما إلى الأبد ستظل وحدة الفعل محتفظة في العمل الفني بقداستها الدرامية.. انتهت كلمتي عن الدراما التي يبدو أنني كتبتها بدافع من شدة اشتياقي لها أو لطول حرماني منها.

الفيلم قديم يتناول اللحظات الأخيرة في الحرب العالمية الثانية، غواصة أميركية تقترب من شاطئ جزيرة يابانية، هي آخر مهمة لقائد الغواصة قبل خروجه إلى المعاش، وهي مهمة تقليدية، ستنزل مجموعة من خمسة أفراد من الغواصة وتركب زورقا من المطاط وتنزل على شاطئ الجزيرة لتؤدي مهمة ما ثم تعود إلى الغواصة في موعد ومكان محددين. نعرف من اللقطات السابقة قوة العلاقة التي تربط قائد الغواصة بمساعده، ونفهم منها أن المساعد هو من سيتولى قيادة الغواصة بعد خروج قائده إلى المعاش. أتمت مجموعة الكوماندوز مهمتها فعادت إلى المكان الذي ستظهر فيه الغواصة، وطفت الغواصة على السطح، عدة مئات من الأمتار تفصلهم الآن عن الغواصة، في تلك اللحظة ومن الناحية الأخرى ظهرت مدمرة يابانية على بعد عدة مئات من الأمتار، وهنا أعطى القائد أوامره لمساعده وللطاقم أن بالغوص فورا، احتج المساعد وناشده أن ينتظر للحظات حتى يعود الفريق، فأصر القائد بصرامة على الغوص، وعادت الغواصة إلى قاعدتها في أميركا، لا نعرف ماذا حدث للمجموعة التي تركت في المحيط لتواجه مصيرا مجهولا. وانتهت مدة خدمة القائد العسكرية وتم تعيين قائد جديد لها، لم يكن المساعد، بل ضابط آخر من ضباط الغواصة، وعندما سأل عن السبب في ذلك أجابوه بأن هذا هو ما أوصى به قائده. استولت عليه خيبة أمل لا حد لها وذهب لمقابلة قائده السابق ليعرف منه السبب: لقد خدمت معك لسنوات طويلة.. لم يحدث أن عصيت لك أمرا أو تباطأت في تنفيذه.. لم يحدث طوال خدمتي أن أهملت في أداء واجب.. لماذا تفعل بي هذا الذي فعلته؟

فأجابه: يعلم الله أنك كنت بالنسبة لي أكثر من مساعد وأكثر من صديق وأكثر من ابن.. أنت ضابط ممتاز كمساعد لقائد غواصة، غير أنك لا تصلح قائدا لها، لأنك عاجز عن اتخاذ قرار مؤلم.. هذا هو الفرق بين الضابط الممتاز والقائد.. هل تتصور أنني لم أكن أتألم وأنا أصدر قراري بالغوص، أنا أحبهم مثلك تماما.. غير أني مسؤول عن مائة رجل هم طاقم الغواصة لذلك اتخذت قراري بالتضحية بهؤلاء الخمسة.. لأن بجواري مدمرة يابانية قادرة في لحظة على تدميري، غير أنك لم تفكر في ذلك لأنك استسلمت للألم وعجزت عن التفكير الصحيح..

وهنا قال المساعد: هناك احتمال أن المدمرة لم ترنا ولم تكتشف وجودنا.

فقال القائد: وهناك احتمال أنها شاهدتنا.. وعلى القائد المسؤول أن يعمل طبقا لأسوأ الاحتمالات وليس لما يفرضه عليه التفكير بالتمني.

انتهى المشهد ليبدأ حديثي ليس عن القرار الصحيح بل عن توقيت اتخاذ القرار، معظم الناس قادرة على اتخاذ القرار الصحيح في مواجهة مشكلة ما، الخطر الحقيقي يأتي من عدم مراعاة التوقيت للفعل، فعندما يحتل - على سبيل المثال - البلطجية في مدينة 6 أكتوبر نحو 2000 شقة من المساكن التي أقامتها الحكومة ولم تسلمها كلها لأصحابها بعد، فالقرار الصحيح الذي أعرفه أنا وأنت وعم عبده والست روحية (لا تسألني من هم) هو أن يتم إجلاؤهم بالقوة مهما كانت الخسائر، عليك أن تتألم لما سيحدث من خسائر ربما تصل إلى الوفاة والإصابات البليغة، غير أنك على الرغم من إحساسك بالألم لا بد أن تصدر القرار، السؤال هو متى؟

بعد أربعة أيام؟.. تتمكن من تحرير نصف الشقق تقريبا؟

لقد ظهر في مصر نوع من البلطجية (العلمانيين) أقصد بالعلمانية هنا أنهم درسوا جيدا الفعل الذي خططوا له، كما درسوا جيدا ردود فعل الحكومة، ودليلي على ذلك أنهم بسرعة خاطفة قاموا بتوصيل المياه ومجاري الصرف الصحي للمنازل المغتصبة ثم أقاموا مواقع لهم تمترسوا فيها بالمدافع الآلية والكلاب البوليسية. البلاطجة هنا يعرفون جيدا القرار الذي ستتخذه الحكومة، وهو إجلاء المغتصبين بالقوة، ولكنهم يلعبون على ورقة أخرى هي التوقيت أي بطء إيقاعاتها؛ في نهاية اليوم الأول ستتجمع أمام وزير الداخلية عدة تقارير تشرح ما حدث وتقترح الحل، وزير الداخلية في صباح اليوم التالي (ما حدش في الحكومة بيشتغل بالليل) سيرسل خطابا لرئيس الوزراء يبلغه فيه بما حدث ويذكر فيه اقتراحاته ويطلب الموافقة عليها، بعدها يرسل رئيس الوزراء بخطاب للمجلس العسكري طالبا الرأي والمشورة والمزيد من القوات، عندها يوافق المجلس على إمدادهم بالمزيد من القوات، هذا هو بالضبط ما يريده البلطجية، أربعة أيام - يجمعون فيها الغلّة - أربعة أيام تكفيهم لإقناع الناس أن لا أحد قادر على إخراجهم من هذه المساكن، أربعة أيام بعدها يختفون ليتفرغوا لعد الفلوس التي حصلوا عليها من هؤلاء التعساء، بعدها يفكرون في ضربتهم القادمة. ومع كل ضربة هم في حاجة لأربعة أيام فقط أو أقل وهم واثقون أن الحكومة ستمنحهم هذه المهلة.

أخطر ما تتميز به الدراما هي الإيقاعات، وهذه قاعدة حياتية وسياسية أيضا، كل الحروب التي خاضتها مصر من قبل ليست في خطورة الحرب مع البلطجية، إنها حرب الإيقاعات في تنفيذ الفعل. ونحن ننتصر في هذه الحرب في حالة واحدة عندما نخوض معركتنا في نفس اللحظة التي يهجم فيها العدو وليس بعد أربع ساعات أو حتى أربع دقائق.

* كاتبة سعودية