الكوابح الجديدة للحرب الأهلية

TT

قد تبدو الصورة اليوم قاتمة للكثيرين بفعل تصاعد الصراعات الإثنية والدينية والطائفية في منطقتنا، وهنالك أكثر من حرب أهلية أو نصف حرب أهلية تطل برأسها. أكثر التحليلات تفاؤلا لا يمكنه استبعاد زمن مقبل من العنف رأينا مظاهره في الصراع الليبي الذي أخذ في بعض مراحله سمات الصراع الأهلي، ورأيناه في المواجهات بين المسلمين والأقباط في مصر، وفي نذر صراع طائفي محتمل في سوريا، وحرب أهلية محتملة في اليمن، كما كان الحال حتى وقت قريب في الحروب الأهلية التي شهدها السودان وفي الصراع الطائفي بالعراق. لكن رغم قتامة الصورة فإن هنالك حقائق مقابلة تدعو للتفاؤل وتدفعنا إلى عدم الاستسلام لفكرة أن العنف حتمي ولا مفر منه. العالم تغير، ومعه تغيرت أشكال الصراع وطبيعة العنف وآفاقه والموقف منه.

أشهر حرب أهلية عرفها المشرق العربي في لبنان طال أمدها 15 عاما، وقدر عدد ضحاياها بنحو 250 ألف قتيل ومليون جريح، لكن تلك الحرب رغم جسامتها لا تقاس مثلا بالحرب الأهلية السودانية بين الشمال والجنوب التي أوقعت أكثر من مليوني قتيل، وحرب دارفور التي يجري الحديث عن أرقام مشابهة بخصوصها، أو الحرب الأهلية في رواندا أو الكونغو وكلتاهما قضت على الملايين، فضلا عن حروب أميركا اللاتينية في غواتيمالا وكولومبيا والبيرو، أو آسيا في كمبوديا وسيلان. كلها كانت حروبا طويلة بعضها استمر لعقود وتحول إلى شيء شبه عادي بالنسبة للعالم الخارجي حتى أن الفقرات الإخبارية اليومية عن من يقتلون في الصراع بين الخمير الحمر والسلطات الكمبودية مثلا كانت أمرا اعتاد الكثيرون على التعايش معه.

الصراعات الأهلية دائما ما كانت تحصل إما لأن مجموعة ما تريد أن تفرض سيطرتها على مجموعات أخرى من خلال الدولة، فتدفع تلك المجموعات إلى مقاومتها، وإما أن هنالك مجموعات شبه متكافئة تتصارع للسيطرة على الدولة، أو تسعى إحداها للانفصال عن الدولة وإقامة دولتها الخاصة. وفي جميع الأحوال هنالك دولة ضعيفة أو منهارة، وهنالك تدخل خارجي وتمويل وتسليح، وهنالك عنف على الهوية يتجاوز أحيانا حدود المعقول.

ربما تعيش منطقتنا اليوم صراعات مشابهة، لا سيما حينما يترافق انهيار أو ضعف النظام الديكتاتوري مع حالة من الضعف في سيطرة الدولة. لكن الشيء الجديد هو أن الحرب الأهلية والعنف الأهلي لم يعودا ظاهرتين قابلتين للعزل، سواء إعلاميا أو سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا. ما أقصده هو أن بقدر ما نشهد صعود تأثير عوامل تدفع نحو الصراع الأهلي والعنف، نشهد في ذات الوقت بروز عوامل كابحة تعوق تحول الانقسامات السياسية والمجتمعية إلى صراعات عنفية مفتوحة. لننظر مثلا إلى آخر حرب أهلية شهدها المشرق العربي وأقصد بها الصراع الطائفي العنفي الذي شهدته بغداد وبعض مدن العراق عامي 2006 و2007. لقد أوقع هذا الصراع عددا كبيرا من الضحايا مع اختلاف كبير في الأرقام، لكن ما يجب أن ندركه أيضا أنه في مرحلة ما كان قابلا لأن يتحول إلى صراع مفتوح يمتد إلى مدن وجبهات أخرى ويستمر زمنا أطول ويوقع عددا أكبر من الضحايا لو لم تنشط العوامل الكابحة لإيقافه أو الحد منه.

أول العوامل هو الإعلام، سواء بشكله التقليدي من صحافة وتلفزيون وإذاعات أو بأشكاله الجديدة التي يعبر عنها الإعلام الإلكتروني، لم يعد الصراع يجري في مكان معزول وناء، بل بات حاضرا في حياتنا اليومية عبر ما نقرأ ونشاهد ونسمع، وبات حضوره من الطغيان بحيث لا يمكن معالجته بالتجاهل. يتداخل ذلك مع طبيعة عالمنا المعولم، لا يقتصر الأمر على التعاطف الذي تتركه مشاهد الضحايا والضغط الإنساني الذي تسلطه على المتلقي، ومن ثم على المجتمع الدولي، بل وأيضا على الأسواق العالمية التي باتت أكثر حساسية تجاه ضغط حالة عدم الاستقرار، لا سيما في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية كمنطقتنا.

العامل الثاني هو طبيعة مجتمعاتنا اليوم. لقد تغيرت ذهنية الكثير من الناس بتأثير طبيعة المجتمع المعاصر وضغوطه الخاصة، وما عادوا مشغولين بالانجرار وراء صراعات مهلكة تحرض عليها في الغالب مفاهيم آيديولوجية عتيقة أو تعصبات ماضوية، صار الناس مشغولين أكثر بحماية أنفسهم وعالمهم من هكذا صراعات. انشغالاتهم تشمل تأمين قوتهم اليومي، منح تعليم أفضل لأبنائهم، الاستفادة من بعض متع الحياة الحديثة، وهي انشغالات لا يمكن للحرب الأهلية إلا أن تنعكس سلبا عليها، وبالتالي حتى لو تعاطف الناس في البداية مع الطرف الذي يدعي تمثيلهم أو حمايتهم فيها، فإنهم لا يستطيعون أن يتخلوا عن حياتهم وأحلامهم ومستقبل أبنائهم للأبد، لا سيما عندما يطول زمن ذلك الصراع ويفقد غاياته العقلانية. في العراق كان ذلك أهم عوامل كبح الحرب الأهلية، غالبية السكان رفضوا الانجرار إليها وتركوها تخاض بين الميليشيات والجماعات المسلحة على الجانبين حتى أنهكت قواها، بينما كان المجتمع يتحول إلى بيئة ساخطة على تلك الجماعات ورافضة لوجودها.

العامل الثالث هو السياسي. غالبا ما يدور العنف الأهلي حول غايات سياسية أساسية كالسلطة والموارد، والسياسيون يحولونه إلى صراع هويات أو آيديولوجيات من أجل تعبئة الناس فيه. بمعنى أنه مهما كانت تلك الصراعات تبدو أحيانا وكأنها قد فقدت أي ارتباط بالعقل والمنطق، فإنها في الحقيقة تظل تجري حول قيم براغماتية وسياسية. وفي عالم اليوم، حيث تتراجع الفكرة الديكتاتورية والمفاهيم التي بررت للدولة السلطوية والقمعية، بات أغلب اللاعبين السياسيين ميالين إلى خوض اللعبة السياسية بآليات ووسائل مختلفة كالانتخابات. هم قد يستخدمون التحشيد الإثني أو القومي أو الديني أو الطائفي، لكن لتحقيق انتصارات انتخابية وتضخيم أوزانهم السياسية، وعلى الرغم من سوء هذا النوع من التحشيد، فإن تمظهره سياسيا لا عنفيا يعد على الرغم من كل شيء تقدما على الماضي. ينطبق الشيء نفسه على القوى الخارجية التي ربما تدفعها الحسابات السياسية إلى تفضيل الصراع مع بعضها عبر وسائل لا عنفية لأن إمكانية السيطرة على العنف أو عبوره الحدود تتضاءل مع تطور تقنيات جديدة وتوظيفها من الجماعات المسلحة في التجنيد والدعاية والتهريب.

لا يعني ذلك أن الصراعات الأهلية ستتوقف، بل هي ربما ستزداد، خصوصا في منطقتنا التي دخلت مرحلة تغيير غير مسبوقة قد تمس بعض الكيانات الجيوسياسية القائمة، لكن ما نعنيه أن هنالك أسبابا وعوامل واقعية جديدة تحول دون تحول كل صراع سياسي إلى حرب أهلية، وكل عنف أهلي إلى صراع مفتوح.