ديمقراطية بقبعة ديكتاتور

TT

أحاول أن أميز الفرق بين آلية الانتخابات التشريعية في عهد الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، وما يتم التحضير له في الانتخابات المقبلة، من حيث منح كل المصريين بلا استثناء حق الترشح وفق إجراءات شفافة ونزيهة، والقبول بالنتيجة، مهما كان شكلها ولونها.

كانت الشكوى القديمة أن الفساد يسيطر على أركان العمل السياسي في عهد مبارك، لم تكن هناك فرص حقيقية للتنافس، كانت رائحة التزوير تفوح في كل مراكز الاقتراع في كل المحافظات، والقضاء مشلول التأثير، أي أنها انتخابات بلا رقيب ولا حسيب سوى النظام نفسه الذي ينام وتحت مخدته النتيجة سلفا.

اليوم تتكرر الصورة ولكن بلون مختلف، شباب الثورة المصرية والأحزاب السياسية التي كانت معارضة في الماضي قلقون ممن سموهم «فلول» الحزب الوطني المنحل، يخشون أن يفسد عليهم بعض أعضاء الحزب الحاكم في عهد مبارك انتخاباتهم لأن بعضا منهم يعد العدة لدخول الانتخابات، وفي رأي الثوار أن هؤلاء سيكونون امتدادا لنظام مبارك البائد، وكل من كان جزءا من هذا النظام هو خارج اللعبة.

الحقيقة أن الثوار خلقوا لأنفسهم بعبعا سموه «فلول» الحزب الوطني، ومصدر خوفهم أن تأتي نتيجة الانتخابات لتعكس استمرار وجود الحزب في الواقع المصري، وتؤكد قدرته على البقاء وحشد أصوات الناخبين. قد تكون مخاوفهم في محلها، ولكن هذه طبيعة العمل الديمقراطي بعناوينه العريضة، ومحاولة تحييد أي طرف تعني أن النظام القمعي استبدل بنظام قمعي آخر. فلتكن مباراة مفتوحة، تمارس فيها قوانين اللعبة الديمقراطية على أصولها. الانتخابات المقبلة اختبار صعب للثورة المصرية، ليس فقط لأنها تقيس موقف المصريين من الثورة، بل لأنها تختبر مصداقية الثوار الذين انقلبوا على النظام السابق بسبب قمعه لحرية الرأي وإحكام قبضته على الحكم، وسيكون من المعيب أن يستخدموا الأسلوب نفسه مع معارضيهم الذين عملوا مع نظام مبارك خلال فترة حكمه.

أعضاء الحزب الحاكم السابق ممن ثبت عليهم قضائيا تهم الفساد المالي أو السياسي أو الشغب بكل أشكاله هم مستبعدون من المشاركة بحكم كلمة القاضي، أما من سواهم فعزلهم دلالة على رهاب نفسي من ماض قديم لم يعد يملك سلطة التزوير والبقاء المزيف.

تونس السبّاقة في الثورة وفي أداء الانتخابات عاشت قبل أيام تجربة مثيرة، حيث شهدت نسبة مشاركة شعبية مرتفعة في انتخابات المجلس التأسيسي ليست ببعيدة عن رقم 90 في المائة، الذي كان يرمز دائما للتزوير، ولكنه هذه المرة عكس حجم المشاركة الفعلية في أول انتخابات بعد سقوط نظام بن علي. فاز حزب النهضة الإسلامي، كما هو متوقع، لأسباب أهمها أنه كان ندا للنظام السابق، فثارت ثائرة الأحزاب الأخرى العلمانية واليسارية وأبدوا رفضهم حتى للدخول في تحالفات مع المنتصر. وليست مهمة قصة التحالفات، ولكن رفض النتيجة يعني أن مطلب الديمقراطية كان كلاما دعائيا، وليس إيمانا بالمبدأ، وأن الغرض منه تشويه صورة النظام السابق لإحلال ديكتاتورية جديدة مكان الديكتاتور القديم.

خصوم الإسلاميين هم الذين أسهموا من حيث لا يقصدون في رسم هالة كبيرة حول التوجه الإسلامي، حينما روجوا لخطورته، فظهر أصحابه بمظهر المنقذين الذين يملكون وحدهم الحلول بشعاراتهم التي تدعو للتعددية وترحب بالمختلفين. إن المخاوف من اكتساح الأحزاب الإسلامية برلمانات تونس ومصر وليبيا والأردن هي مخاوف من أمر لا بد من تركه يأتي، ليمضي.

الإسلاميون اليوم ليسوا إسلاميي الجزائر، الذين فازوا بالانتخابات التشريعية في عام 1991، فهرع الجيش لإلغائها خوفا من أن يمسك الإسلام المتطرف بزمام الحكم؛ اليوم الإسلاميون براغماتيون، قد يتنازلون عن أقدس مبادئهم بتبريرات الضرورة الوطنية أو المطالبة الشعبية أو غيرها، وربما يتحالفون مع شيطان رجيم يتعهدهم بالنجاح، وانظروا إلى حركة حماس التي كانت شوكة في حلق إسرائيل حينما كانت في الميدان، وعندما عرفت العمل السياسي استكانت له واستحلت طعمه، فأصبحت هي التي تتصدى لحماية الأراضي الإسرائيلية، بل وتعتقل أي ناشط فلسطيني يجرؤ على ضرب إسرائيل.

لكن تبقى الحقيقة التي لا تزوير فيها أن للديمقراطية مقاسا واحدا، لا يمكن تفصيلها على الجسد المصري أو التونسي أو اليمني أو الكويتي بالطلب، ومن ينادي بالديمقراطية عليه أن يقبل بكل قواعدها، أو يتركها لأهلها.