ليس أفرغ من الأنا

TT

تجنب عمالقة النهضة والأدب ذكر «الأنا»؛ خوف السقوط في وضاعة التكبر والغرور. فقد كان فيهم من الكِبَر ما يغني عن كل ذكر. وكانت فيهم شهادات الجموع فما عادوا في حاجة إلى ذكر أنفسهم والتعلق بشهادتها. لجأوا إلى القول «صاحبنا» جاء و«صاحبنا» ذهب حتى في المذكرات الشخصية. وعندما تبحث في أدب طه حسين وزكي نجيب محمود والعقاد ومحمد خالد، فلن تجد أثرا لهم. فصاحبنا هو الذي سافر إلى باريس وصاحبنا هو الذي غرق في العلم وصاحبنا هو الذي تألم وتعذَّب وأمضى طفولة بائسة.

في بدايات هذه الزاوية كنت أشير إلى نفسي عند الاضطرار باستخدام «المرء». وهي حيلة جميلة أخذتها عن رائع ليبيا، الصادق النيهوم. لكن عددا من الرسائل إلى البريد سخر من هذه الطريقة، فأقلعت عنها. وعدت إلى الأنا عند الاضطرار أو في حال السخرية من النفس في المواقع المضحكة.

وحاولت مرة اللجوء إلى «أحد الزملاء» في الحوارات، فاعترض الذين أنقل عنهم: هل أنا خجول بالقول إن الحوار كان معي؟ فاضطررت إلى ترك «أحد الزملاء» وشأنه. ولجأت إلى «المحبَّر» باعتبار أن الكتَّاب ليسوا أكثر من حبر وورق. لكن رسائل كثيرة اعترضت على التعبير، وهو مأخوذ، مثل «صاحبنا» و«كاتب هذه السطور»، من أدبيات وصحافة القرن التاسع عشر في الغرب.

لا مفر، أحيانا، من هذه الذات العابرة. ولكن بالإكراه. فما أبشع الغرق فيها، وما أقبح أن تدور حول نفسك وتظن أن الأرض عندما بحثت عن مدار لم تجد سواك، وأن العالم عندما قرر أن يتحدث لم يجد غيرك يعترف له، وأن لا همّ للبشر في هذه الأرض سوى تتبع العشاءات التي شاركت فيها من دون أن تصاب بمغص في المصران الأعور.

كم أشعر بالخجل والضآلة عندما أعود إلى قراءة أولئك العمالقة الذين ما زالوا يملأون حياتنا، وقد عبروا هذه الحياة من دون أن يتعفروا بانزلاقة الأنا. أقرأهم بحثا عن فكرة أو إضاءة أو أمثولة أو درس لا ينسى، وأجد دائما أن الدرس الأول كان هم: السيرة العطرة والاجتهاد المذهل، وذلك الانتصار العظيم على وضاعة النفس الأمارة بالسوء. ولعل أسوأ ما تأمر به هو أنا الفراغ.

يا سيدي، لهذا العالم شأن آخر غيرك. وللأرض مدارها. والكبار هم الكبار، فانعم في ظلهم ولا تحاول التسلق على أكتافهم وأسمائهم لأن ذلك يفقع من الضحك. حقا يفقع من الضحك. ما أهنأ أن يكون الإنسان في مكانه، متواضعا إلى ربه، قانعا بما كان وبما صار وبما هو عليه. وما أبشع الاختيال. حتى الله لا يحبه.