لبنان: الشعب لا يعرف ماذا يريد

TT

«قوة الحليف القوي يمكن أن تكون مفيدة لمن يلجأ إليها.. لكنها خطيرة على من يعتمد عليها»

(ماكيافيللي)

في خضم المتغيرات العربية المتسارعة، يبدو الشعب اللبناني، ومعه مؤسساته السياسية، أشبه بزورق تتلاعب به الأنواء. في لبنان، ربما أكثر من أي دولة عربية، يبدو الاختلال الكامل «سيد الأحكام»، وهو ما أفضى، عمليا، إلى اقتراب البلاد من وضع «الدولة الفاشلة».

لا حاجة لرصد وضع الساحة اللبنانية التي كانت شفافيتها وحركيتها وتعددية مشاربها وشعاراتها عناصر إيجابية في عالم عربي «أحادي» اللون، آسن في استقراره المريض.. المتطاول عقودا. فهذه الساحة هجرت فعليا أي فكر سياسي واضح وقابل للترجمة على أرض الواقع منذ بعض الوقت. هنا لا الأحزاب بقيت أحزابا، ولا العقائد ظلت عقائد، ولا «التحالفات» – تكتيكية كانت أم استراتيجية – غدا أطرافها مقتنعين بجديتها أو جدواها.. لأن المسألة في جوهرها مسألة إفلاس، بل يأس، شبه كامل، أسهمت في بلوغه «ثقافة سياسية» شوهتها خلال نصف قرن سلسلة من التجارب «النضالية» الفاشلة وخيبات الأمل المحلية والإقليمية والعالمية.

مفهوم «الكيانية اللبنانية»، مثلا، جسدته في مرحلة ما بعد الاستقلال من القرن العشرين أحزاب من نوعية «الكتلة الوطنية» و«الكتائب اللبنانية»، وتبلورَ تحالفيا وقتاليا في نهاية عقد الستينات بـ«حلف ثلاثي» ذي ثقل مسيحي، ضم إلى جانب «الكتلة» و«الكتائب» حزبا ثالثا هو «الوطنيون الأحرار»، ومن ثم تطور إلى «الجبهة اللبنانية» إبان الحرب اللبنانية بين 1975 و1990.. لكن أين هو اليوم؟

بعض قيادات «الكتائب» ومنظريه الكبار صاروا اليوم من دعاة التضامن المطلق مع النظام الحاكم في دمشق تحت شعارات «تحالف الأقليات». وثمة شخصيات «كتلوية» سابقة انسجمت مع هذا التوجه فانقلبت على ماضيها وقناعاتها. و«التيار» العوني، الذي كان، حتى سنوات قليلة مضت، أكثر القوى المسيحية تطرفا ومزايدة على الصعيد «الكياني»، بات «حليفا» لحزب الله وحركة «أمل» وركام الحزبين الشيوعي والسوري القومي الاجتماعي وما تبقى في لبنان – وغيره – من بعثيين (!) وقبل أن ننسى.. حتى في كرسي البطريركية المارونية نفسها، يشغل المنصب اليوم بطريرك غيَّر بوصلته السياسية علنا 180 درجة عما كانت عليه عندما كان مطرانا.

في المقابل، لا يبدو الاتجاه المقابل أفضل حالا؛ فمعظم قوى اليسار – بغض النظر عما تعنيه الكلمة في لبنان – انتهت عمليا في فترة ترهل الاتحاد السوفياتي السابق، أي قبل سنوات كثيرة من انهيار جدار برلين (الكتلة الشرقية) عام 1989. والاتجاهات «العروبية» تنازعتها وتحكمت بها المصالح الإقليمية – وتحديدا، العائلية والمذهبية في حالتي «بعثي» العراق وسوريا – إبان الحرب اللبنانية، عندما انخرطت مع قوى اليسار والحزب السوري القومي الاجتماعي في «الحركة الوطنية اللبنانية» المواجهة لـ«الجبهة اللبنانية». أما القوميون السوريون فكانوا قد انقسموا منذ بعض الوقت بين فريقين أساسيين، أحدهما التزم النقاء العقيدي العلماني ففشل.. وآخر تولت شؤونه قيادات الارتباط الأمني الواقعي، وما زالت تقوده هذه الأيام تحت إشراف دمشق، وفي خدمة أقوى حزب ديني في لبنان.

وفي مكان ثالث في لبنان نجد قوى «الإسلام السياسي»، التي كان حضورها التنظيمي على الأرض محدودا في مطلع القرن العشرين، غير أنها اليوم تشكل ثقلا كبيرا جدا، لا سيما على الساحة الشيعية. هذه الساحة كانت في النصف الأول من القرن الماضي رهينة للإقطاع، قبل أن يبرز فيها حضور اليسار، ومن ثم يخترقها مباشرة نفوذ إيران.

هذا على الصعيدين الحزبي والشعبي، فماذا على صعيد مؤسسات الدولة؟

نظريا، يقوم في لبنان مبدأ «فصل السلطات»، وفي «اتفاقات الطائف» أقرت سلسلة تعديلات دستورية كان من المفترض أن تعزز التوافق الوطني، وتحسم موضوع الهوية الوطنية، وتزيل الغبن، وتطمئن الأقليات الدينية والمذهبية. لكن التطبيق الانتقائي المجزوء لدستور «الطائف» بما فيه اختصار أسلحة الميليشيات الحزبية والطائفية المتعددة في سلاح قوة واحدة.. دينية ومذهبية، تحت شعار «المقاومة» – مع أن هذه القوة لم تحتكر شرف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في يوم من الأيام – أنهى عمليا أي مؤسسات سلطة حقيقية.

فرئيس الجمهورية انتُخب بعد «اتفاق الدوحة» في ظل غلبة السلاح إثر أحداث مايو (أيار) 2008. ومجلس النواب أغلقه رئيسه عام 2006 واحتفظ بمفتاحه قرابة السنتين اعتصمت خلالهما عناصر حزبه في وسط العاصمة وحاصرت مع «حلفائها» في ما عُرف بقوى «8 آذار» مقر رئاسة الحكومة وهددت باقتحامه. أما الحكومة الحالية فجاءت بعد مخاض عسير في أعقاب «انقلاب» القوى ذاتها على «اتفاق الدوحة» الذي كانت قد وقعته وادعت التزامها به.. وذلك عبر وزير واحد كوفئ لاحقا على إسقاطه الحكومة «التوافقية» بتعيينه رئيسا لمؤسسة الجامعية الحكومية في لبنان.

هذا كله في ظل سطوة السلاح غير الخاضع لسلطة الدولة.. الذي لم يكتفِ بإلغاء مفاعيل نتائج الانتخابات العامة الأخيرة، بل هو يدفع راهنا نحو حالة فراغ سياسي وحكومي كامل.

الحكومة الحالية، التي يترأسها الرئيس نجيب ميقاتي، يصدق عليها وصف الصحافي والسياسي اللبناني القديم الشيخ يوسف الخازن لأحد زملائه الصحافيين بأنه «أبرع من ملأ الفراغ بمثله». وحقا، هذه الحكومة هي صيغة «تمرير وقت» و«ملء فراغ».. لا أكثر ولا أقل.

إنها حكومة، كما قال السيد حسن نصر الله، حاكم لبنان الفعلي، مطلوب أن تبقى مهما كلف الأمر لفترة كافية لإنجاز تغييرات في قوانين الانتخاب تؤدي إلى تسليم البلاد تسليم اليد لحزب الله. في حين يرى بعض من تمثل فيها من خارج قوى «8 آذار» أنها «حكومة اضطرار لمنع الفراغ». وهكذا.. لا قواسم مشتركة بين مكوناتها، ولا توافق في العمق – بعيدا عن ضغط السلاح طبعا – على مقارباتها السياسية والتزاماتها القانونية.. لا سيما في مواضيع حساسة مثل تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ولا رؤية جلية لديها إزاء سياسة أجور انكشف زيفها أخيرا في «استرضاء» مكشوف لاتحاد عمالي تحركه سياسيا قوى الأمر الواقع.. قبل أن ترفض شرعيته الجهات القضائية.

حزب الله، الذي بررت قيادته الاعتصام الطويل في وسط بيروت بأن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة «غير توافقية في بلد يجب أن يحكمه التوافق»، يدعو اليوم – مستقويا باحتكاره السلاح – إلى التصويت، لا التوافق، لحسم القضايا الخلافية داخل مجلس الوزراء.. حيث لديه ولحليفه «أمل» و«التيار» العوني الأغلبية!

اليوم يستطيع «الحزب» إجهاض أي مسعى لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، مع أنه يريد منه أن يبقى لضمان بقاء الحكومة التي يأمل منها أن تهديه ديمومة السيطرة على البلاد. وفي المقابل، الكرة في ملعب رئيس الحكومة الذي تتنازعه مصالح خاصة وسياسية كثيرة ومتناقضة.

كيف سيتصرف رئيس ممنوع من الحكم، ومهدد بالعزلة من قبل المجتمع الدولي، ومحاصر بأزمات إقليمية معقدة، ومضطر للتحرك بحذر في بلد «مفخخ».. لا رؤية مشتركة لسكانه، ولا حليف فيه يمكن الوثوق به والركون إليه؟