يد أنيس منصور.. اليمنى!

TT

كان أنيس منصور «ابن نكتة» كما يقال، وكان السادات كذلك، ومن النكات التي شاعت عنهما، أن أنيس كان في ضيافة الرئيس الراحل في استراحته الشهيرة في القناطر الخيرية، ذات يوم، فإذا بالسادات يفاجئه قائلا: تعرف يا أنيس أني أستطيع أن أذهب بك إلى السجن الآن؟!

رد أنيس في تلقائية: طبعا يا ريس.. وهل هذا يحتاج منك إلى كلام أو نقاش؟.. أنت يا سيادة الرئيس تستطيع أن تأتي بهذا العسكري الواقف بعيدا عنا، وأن تأمره بأن يأخذني إلى السجن، وينتهي الأمر عند هذا الحد، ولن يناقشك أحد، فيما سوف تفعل.. لا العسكري سوف يناقش.. ولا أي أحد آخر سواه!

ضحك الرئيس الراحل وقال: لا يا أنيس.. أنا لن أذهب بك إلى الحبس بهذه الطريقة.. وإنما سوف أضع قطعة حشيش في جيبك، ثم أبلغ عنك!!

هكذا جرت النكتة عنهما، وهكذا شاعت هذه الطرفة، وهي حتى إن لم تكن قد حدثت في الواقع، فهي تريك إلى أي حد كانت علاقة الود والصداقة بينهما.. ونحن على كل حال، لسنا في حاجة إلى نكتة من هذا النوع، لنعرف أن علاقة قوية قد ربطت بين الراحلين الكبيرين، على هذه الصورة.. فالصور المتوافرة في ألبوم السادات، الذي أصدرته مؤسسة «الأهرام» منذ سنوات، وكذلك الصور المتاحة في ألبوم صور أنيس نفسه، تقول إن السادات رغم أنه عرف أسماء كبيرة في عالم الصحافة والكتابة، منذ بدأ حكم مصر عام 1970 حتى رحيله عام 1981 من وزن أحمد بهاء الدين، وإحسان عبد القدوس، وموسى صبري، وغيرهم.. فإن أنيس، فيما يبدو، من سياق الأحداث، كان هو الأقرب، وكان هو الذي دامت علاقته، وازدادت قوة بالسادات، إلى يوم رحيله، على عكس علاقة أحمد بهاء الدين به، على سبيل المثال.

وربما يكون من بين دلائل تلك العلاقة الفريدة التي ربطت بين هذين العظيمين، في السياسة، وفي الكتابة، أن السادات عندما زاد إعجابه بمجلة «الحوادث» اللبنانية، في منتصف السبعينات، وعندما قرر أن تكون عنده مجلة مماثلة، طلب من أنيس، وحده، ولم يطلب من أحد غيره، أن ينشئ مجلة على غرار «الحوادث» التي كانت في ذلك الوقت، هي المجلة السياسية الأولى، ربما في العالم العربي كله.. ولذلك، جاءت مجلة «أكتوبر» وقتها، وكانت حين نشأت، موضع إعجاب كثيرين في مصر، وخارجها، وكان السادات يختصها بأحاديث وأسرار لا تذهب من عنده لأي مطبوعة غيرها، وكان اسم أنيس، في المقابل، كفيلا بأن يجعل قراء الصحف والمجلات يتابعونها في لهفة، أسبوعا وراء أسبوع!

ولذلك، ورغم أن الكاتب الكبير، كان قد عرف عبد الناصر، من قبل، ثم عرف حسني مبارك، من بعد، فإن علاقته بالسادات، تظل بلا نظير، وبلا مثيل، اللهم إلا علاقة محمد حسنين هيكل بعبد الناصر.

ويبقى السؤال، إذن، عن موقع علاقة من هذا النوع، وعلى هذا المستوى، بين الاثنين، في مشروع أنيس الإبداعي، إجمالا.. أين هو الكتاب الذي يضم تفاصيلها، ومتى خرج إلى النور، بين ما يقرب من مائتي كتاب أخرجها أنيس منصور، وإذا لم يكن قد خرج، فلماذا لم يخرج، ومتى يخرج؟!

سمعت من الناشر الكبير الراحل أحمد يحيى، صاحب دار «المكتب المصري الحديث» وهو الرجل الذي أخرج لأنيس منصور أهم كتبه، من «حول العالم في 200 يوم» إلى «في صالون العقاد كانت لنا أيام» إلى «عاشوا في حياتي» إلى.. إلى.. سمعت منه، أنه بعد رحيل السادات بساعات، يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981 أسرع إلى أنيس في بيته في حي الهرم، وصارحه بأن دور النشر العالمية بدأت تطلب منه إعداد كتاب عن السادات، وإنه، أي أحمد يحيى، يرى أنه ليس هناك من سوف يضع الكتاب المنتظر إلا أنت.. فالجميع، داخل البلد وخارجه، كانوا يعرفون عمق علاقتك - هكذا راح الناشر يخاطب أنيس - بالرئيس الراحل، وينتظرون منك أن تعكف على كتاب يخرج على قدر عمق علاقتك به، وليس هناك أحد من الكتاب، سوف ينافسك في هذا الاتجاه.. لا أحمد بهاء نفسه، ولا حتى موسى صبري.. ولا أحد غيرهما.. فماذا سوف تفعل؟! إنني، والكلام لأحمد يحيى كما سمعته أنا منه، في انتظار ما سوف تكتبه، وسوف أعمل على إخراجه بالعربية، على أحسن صورة.. أما مسألة ترجمته، في دور النشر العالمية، فهذه حكاية أخرى، سوف يأتي دورها.. ولكن المهم، الآن، أن يصدر الكتاب باللغة العربية، أولا، ثم ليكن بعد ذلك ما سوف يكون.

روى يحيى لي، أكثر من مرة، في بيته، في حي المهندسين بالقاهرة، أن أنيس منصور صمت قليلا، ثم قال عبارة ظل يرددها طويلا فيما بعد، ربما إلى يوم رحيله قبل أيام.. قال: يجب مراعاة فروق التوقيت!

ولم يعلق أحمد يحيى، حين سمع هذه العبارة، وإن كان قد شعر بأسف وحزن، لا لشيء إلا لأن معنى العبارة، كما هو واضح، أن الظروف غير مناسبة لإخراج ما يعرفه أنيس منصور، في كتاب.. وقد كانت ظروفا سياسية في غالب الأحوال، وحين سئل بعد ذلك، عن السبب الذي يؤخر كتابه عن السادات، كان يقول دائما، إن الرئيس السابق حسني مبارك، طرف مباشر فيما يريد أن يكتبه، لأنه، أي مبارك، كان نائبا للرئيس وقت وقوع الأحداث، التي يريد أن يكتبها، وكان مبارك، بالتالي، قاسما مشتركا أعظم فيها كلها، أو في أغلبها على الأقل، وبما أنه كان هو الرئيس، على مدى 30 عاما ممتدة، فليس من الممكن إصدار كتاب يتكلم عنه، في كثير من سطوره، بغير استئذانه، وقد كان أنيس، كلما ذهب يستأذن الرئيس السابق، في حينه، فإنه كان يستمهله، ويطلب منه الانتظار الذي طال، إلى أن رحل أنيس منصور، وغادر مبارك الحكم بالطريقة التي نعرفها، ولا نعرف، في الوقت ذاته، أين هي، الآن «ثروة» كان أنيس منصور يمتلكها، عن علاقته بالسادات، وكانت عبارة عن مئات الأشرطة المسجلة بينهما؟!

لقد ظل أنيس يراوغ مرة، وينتظر الإذن من مبارك مرات، إلى أن تبددت ثروة بهذا الحجم، أو كادت، على اعتبار أن هناك أملا ضعيفا، في أن يتكفلها أحد، بعد رحيله، ويصدرها في كتاب لن يكون، في كل أحواله، أقل قيمة، من كتاب «البحث عن الذات» للسادات، بل سوف يكون أعلى قيمة.

كان أنيس يردد طويلا أنه لا يزال يكتب بيده اليسرى، ورغم أنه لم يكن في الحقيقة يكتب بها، فإنه كان يقصد أن ما كتبه، رغم كثرته وتنوعه، لا يزال دون طموحه في الكتابة، وأنه عندما يكتب ما يريد أن يكتبه فعلا، فسوف يكون عندها فقط، قد كتب بيده اليمنى.. أما ما قبل ذلك، فهذا كله أشياء وكتابات على سبيل التجربة التدريب على الكتابة لا أكثر، وأظن أن كتاب أنيس، عن علاقته بالسادات، كان هو الكتاب الوحيد، في حياته، الذي سيكتبه بيمناه.. لو كان قد كتب!