الحب والكراهية.. أنيس منصور والقذافي!

TT

«الحب نتعلمه ونمارسه سنة بعد سنة حتى نغرق فيه.. أما الكراهية فليست في حاجة إلى تعليم» - أنيس منصور.

في البداية كنت أخطط لكتابة مقال عن الساعة الأخيرة في حياة القذافي، فقد كان هذا حدثا فريدا ومرعبا، كما أنه ينطوي على رسالة لا تصدق، لكن ما أكثر العبر وأقل الاعتبار!

لقد كان العقيد وحيدا تماما. وكان يصيح: لا تقتلوني! لقد كان أكثر وحدة من بطل رواية «الجنرال في متاهة» التي كتبها غابريل غارسيا ماركيز. ويقدم كل من اعتقاله ومقتله بعد ذلك رسالتين قويتين: الرسالة الأولى موجهة إلى كل الأنظمة الاستبدادية والديكتاتوريين، حيث يمكنهم أن يروا وجوههم في مصير القذافي، مع أن القذافي لم يهتم بالأيام الأخيرة لصدام حسين وبن علي ومبارك. وبسبب هذا، كان مصيره غريبا للغاية. والرسالة الثانية للجماعات الليبية المسلحة. فإذا ما فعلوا كما فعل القذافي، فماذا سيكون الفارق بينهم؟! لكن، لسوء الحظ، فقد أضاف مقتل القذافي صفحة سوداء إلى تاريخ الثورة الليبية. نستطيع أن نقول إن قتله كان خطأ، فقد كان قرار شاب عمره 21 عاما، وتملأه مشاعر الغضب والكراهية، وأراد الانتقام. وهذا نتاج لنظام ديكتاتوري.

وبينما كنت أفكر فيما حدث في ليبيا، قرأت عن وفاة أنيس منصور في «الأهرام»، حتى إن صورة القذافي اختفت تماما من ذهني وحلت محلها صورة أنيس منصور. لقد كان محبا للحياة، كما كان محبوبا من عدد كبير من الأشخاص.

وكانت هناك بساطة فريدة في مقالاته وكتبه، فعندما يتحدث تجده شديد البساطة، ولم يكن هناك أي غموض أو تعقيد في عقله أو أسلوبه. لقد كان واضحا وعذبا كينبوع ماء، كما كان لديه حس فكاهي واضح، لهذا أطلق عليه بعض الكتاب اسم «فيلسوف البسطاء»، حيث كتب:

«لم أكن أسعد الناس.. وإن كنت تمنيت ذلك الإيمان العظيم الذي جاء وصفه في التاريخ الإسلامي بأنه (إيمان العجائز).. أين هذه البساطة؟! أين هذا الإحساس المباشر بالله؟! أين هذا الإيمان الساحق الماحق الباهر لكل ما قرأت وتعلمت وعلمت واجتهدت؟!.. أين هذا الذي لا يذوقه الإنسان إلا مرة واحدة في العمر.. إلا لحظة في العمر كله؟!».

قبل عشر سنوات، عندما كنت في القاهرة، التقيت حسنين هيكل في مكتبه. كما التقيت محمد عمارة في منزله الصغير والبسيط والذي كان ممتلئا بالكتب. بعد ذلك، ذهبت للقاء صافي ناز كاظم في شقتها البالغة الصغر التي تقطن فيها مع قطتيها. وكانت إحدى القطتين جميلة للغاية وتشبه الأميرات. وكان لونها مزيجا بين الأزرق والأرغواني. أما الأخرى، فكانت قبيحة بشكل بشع. وقالت لنا صافي ناز إنهما تمثلان وجهي الحياة! وكان لقائي الأخير في منزل أنيس منصور، في مكتبته. وكان أنيس منصور هو كاتبي المفضل بعد مصطفى أمين. لكن كيف لي أن أصف أسلوب كتابته؟! هل أقول إنه «سهل ممتنع»؟!

من ناحية، تعتبر مقالاته بسيطة للغاية، لكن عندما تحاول أن تكتب مقالا مثل مصطفى أمين أو أنيس منصور، فسوف تجد الأمر غاية في الصعوبة. وكما قال حافظ شيرازي: في البداية، بدا الحب بسيطا للغاية، إلا أنني واجهت العديد من المصاعب. وهناك ثلاثة أركان لأسلوب أنيس منصور هي:

أ) الفلسفة والحكمة.

ب) القصة والنكتة.

ج) السياسة.

لكن، في السنوات الأخيرة، نحى السياسة جانبا، وركز على المعنى الحقيقي للحياة. ومن الواضح أن السياسة احتلت العديد من الأماكن، كرسوم الكاريكاتير. إننا ننظر إلى الحضارة من منظور سياسي. يبدو أننا نريد أن نحكم ونزن كل شيء من خلال عدسات سياسية. ونحن نواجه السياسة في كل مكان، إلا أننا متعطشون للحقيقة وللعدالة.

لقد كان أنيس منصور رجل الحياة والحب. كيف لي أن أنسى ضحكه في لقائنا الأول والأخير.

وقتها، قال لي: «لا أستطيع أن أفهم بلدك، كما أنني لم أفهم الملالي يوما، في إيران وفي مصر أيضا! لدينا مثل يقول: (الأب عاشق والأم غيرانة والبنت حيرانة). لا يقتصر الأمر على بلدك وحسب، فكل البلاد الإسلامية سواء، حيث تقدم البلاد الأخرى العلم والتكنولوجيا وحتى النظريات الاجتماعية والسياسية ونستفيد نحن من تلك الإنجازات. إنهم يتعلمون من التاريخ ومن خبراتهم السابقة. لقد تعلموا أن يتعايشوا مع بعضهم البعض وأن يحترموا التنوع والاختلافات بينهم. أما نحن، فنريد أن ننتج زيا موحدا لكل شخص وكل شيء، ونجعل الجميع يستخدمونه. نريد زيا موحدا ليس للأجساد فقط بل للعقول أيضا. إن عمري سبعة وسبعون عاما، وقد عشت طويلا. لقد مات الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما كان عمره 63 عاما. على أي حال، فإن المعنى الأخير الذي وجدته يصف الحياة هو أن (الحياة تعني التوافق مع سلبيات).

إننا نحيا في وقت مميز، ولدينا حكومات غريبة، تريد التخلص من أي شخص ينتقدها، وتبحث عن أي أسباب لتبرير ذلك. ونتيجة لذلك، تقوم بتدمير حضارتنا وشعبنا ودولتنا، يا سيدي العزيز، «إبليس ما يخربش بيته». إننا نقرأ في القرآن الكريم: «يخربون بيوتهم بأيديهم». إنني ضد أي ثورة، لكنني أدعم الحركات الإصلاحية. إن الثورة تدمر كل شيء. انظروا إلى ثورة فرنسا وثورة روسيا وبعد ذلك ثورتنا! لا أعلم، أنا الشيطان الأصغر! لكن في بعض الأوقات تكون بحاجة إلى أن تستمع إلى كلمات الشيطان. وكما يقول العراقيون: خلي ولي!

دعنا نذهب ونلقي نظرة على النيل». تركنا الأريكة التي كنا نجلس عليها وذهبنا لنرى النيل. وقال أنيس منصور: «منذ أكثر من أربعين عاما، وكل يوم، أرى شروق الشمس وغروبها من هذا المكان. هذه هي جنتي الحقيقية. النيل والشمس دلالتان على وجود تلك الجنة. انتبه ألا تفقد الإشارات في حياتك».

وقال كافكا: «قد نعيش ساعة واحدة، إلا أننا نستطيع أن نروي تلك الساعة لمائة عام».

وهذه حقيقة، فنحن نستطيع أن نتحدث عن أنيس منصور لسنوات عديدة. لقد انتهى القذافي. احترق ملك من ورق. وسوف نتذكر وجه أنيس منصور البشوش والعطوف وصوته الموسيقي ونظرته المتأملة لسنوات عديدة، من ناحية. لكن من الناحية الأخرى، سنتذكر أيضا الوجه الدموي لمعمر القذافي وصياحه الأليم، فلم يكن هذا الصياح آخر ما أطلقه القذافي فحسب، بل كان الصوت الجديد للموت، صوت تدمير الذات!