ديمقراطيات تنتج الديكتاتورية

TT

سقطت في الأشهر الأخيرة ثلاثة أنظمة عربية، صدف أنها كلها متجاورة جغرافيا. سقط النظام المصري وأصبح رئيسه رهين السجن والمحاكمة، وسقط النظام في ليبيا وقتل رئيسه في الشارع بأيدي الجمهور الغاضب، وسقط قبل ذلك النظام في تونس وأصبح رئيسه هاربا ولاجئا في دولة أخرى. سقطت الأنظمة الثلاثة، وصدف أنها كلها أنظمة «ديمقراطية»؛ النظام المصري سقط في هبة جماهيرية حملت صدفة اسم «ميدان التحرير»، وهو نظام له برلمانه المنتخب ديمقراطيا، برلمان يجتمع ويناقش ويؤيد ويعترض، وهو نظام له صحفه «الحرة» المخولة نظريا أن تطرح قضايا السلطة وقضايا المجتمع وتناقشها بصراحة كاملة، وهو أيضا نظام يعيش في ظل مجتمع متكون، ومنتج، وقادر على إفراز كفاءات في كل مجال من مجالات الحياة السياسية والفكرية والعلمية والاقتصادية، ولكن ذلك لم يمنع خروج الناس إلى الشارع في هبة عفوية كانت أبعد ما تكون عن التحضير المسبق، أو عن التآمر، أو عن تكتل مجموعة قوى حزبية أو نقابية ضده.

النظام الليبي سقط في هبة جماهيرية من نوع مختلف، طاردت رئيس البلاد من مدينة إلى مدينة، ومن حي إلى حي، ومن زنقة إلى زنقة، وحين أمسك الجمهور بذلك الرئيس ضرب وطعن وجرح ونزف ومات. وحدث كل هذا مع أن ذلك الرئيس لم يكن رئيسا من النوع الذي تعرفه الدول، كان «زعيما» للشعب طالما تباهى بأنه لا يتسلم أي منصب، وهو بالتالي بريء من أي خطأ، أو من أي فساد، أو من أي تسلط، بينما يعرف الجميع أنه كان الرئيس ولا رئيس غيره، وأنه كان يتسلم ويقود كل المناصب دفعة واحدة، مناصب الحكم، ومناصب الاقتصاد، ومناصب الجيش، وأي منصب آخر يخطر على البال.

وقبلهما سقط النظام التونسي في هبة جماهيرية مميزة، كانت هي البداية، وكانت هي صاحبة التأثير في ما حولها. وقد اشتهر النظام التونسي بأنه نظام له تجربة ديمقراطية من نوع خاص، ديمقراطية بدأت قبل الاستقلال عن فرنسا، واستمرت بعد ذلك عقودا. بدأت ديمقراطية صنعت الاستقلال، ثم تطورت إلى ديمقراطية تبدع في إنتاج الديكتاتورية.

تونس.. كان لها حزبها. وكان لها قائدها. وكان لها جمهورها المؤيد. وكان لها نظامها الديمقراطي.. ثم كان لها ديكتاتورها، إلى أن حدث ما حدث، وسيطر على البلد شعار: بن علي هرب.

داخل النظام المصري، وجدت كل الأشكال الديمقراطية المعروفة. الدستور، والانتخابات، والأحزاب، والاستفتاءات الشعبية. ولكن سُما خفيا كان يجول في أروقة كل هذه المؤسسات لينتج ديكتاتورية من نوع خاص، وبحيث أصبحت حفنة من الرجال تقود كل شيء، ومن وراء ظهر المؤسسات الديمقراطية. وبرزت ظاهرة رجال الأعمال لتصبح مركزا أساسيا من مراكز السلطة والثروة والنفوذ. وتبلورت في حصيلة كل ذلك، ديكتاتورية غير معلنة، تعمل في نظام ديمقراطي معلن. في التجارة كان هناك رجال الأعمال. وفي الاقتصاد وجد أصحاب الوكالات التجارية، وفي المشاريع وجد المتعهدون الذين يملكون ذكاء خارقا في تحديد نسبة ربح كل شخص حسب موقعه في السلطة، سواء كان ذا علاقة بالمشاريع أو بعيدا عنها بحيث يرضى الجميع في النهاية، ويستفيد الجميع في النهاية، ويكون الخاسر الأكبر هو المواطن الفقير والموظف الصغير المتواضع. وتبلورت في حصيلة كل ذلك، ديكتاتورية غير معلنة، تعمل داخل نظام ديمقراطي معلن.

ووجدت داخل النظام التونسي الأشكال الديمقراطية التي تخصه. لا بل إن تونس كانت رائدة في إنتاج ديمقراطية مميزة في العالم الثالث، إذ كان لها حزبها، وكان لها قائدها السياسي، وكلاهما الحزب والقائد صنعا استقلال تونس. كان الحزب يقود من خلال وجوده في أوساط الجماهير، مناضلا من أجل الاستقلال، ثم مناضلا من أجل بناء الدولة. كان موجودا في النقابات، وكان موجودا في البلديات، وكان موجودا داخل كل مؤسسة تعمل لخدمة المواطن. وكانت إدارة كل ذلك تقتضي نوعا من الديمقراطية داخل الحزب يديرها قائده. ولكن شيئا فشيئا بدأت بذرة الديكتاتورية تنمو من داخل هذه الديمقراطية، وفي النهاية أبقت عليها شكلا ودمرتها فعليا.

أما في ليبيا فقد كانت اللعبة أعقد وأشمل وأخطر. أعلن القائد نظام «الجماهيرية». وأعلن أن الشعب هو الذي يدير الجماهيرية. ونأى بنفسه رسميا عن أي منصب أو إدارة، وإن كان دائما قادرا على تحريك الخيوط كيف يشاء. ومن قلب هذه الديمقراطية الشعبية المعلنة، نمت ديكتاتورية وحشية، وساد جو الخوف في كل مكان.

وهكذا وجدت ثلاثة أنواع من الديكتاتورية؛ ديكتاتورية النظام الجمهوري (مصر)، وديكتاتورية النظام الحزبي (تونس)، ونمت بينهما الديكتاتورية الجماهيرية (ليبيا).

يطرح هذا الواقع مسألة حساسة، وهي كيف أن الديكتاتورية تتفاعل وتنمو داخل النظم التي تحمل في طياتها كل الأشكال الديمقراطية؟

ويطرح هذا الواقع المسألة بطريقة أخرى، وهي أنه من أجل بناء نظام ديمقراطي، لا نحتاج إلى انتخابات فقط، ولا نحتاج إلى أحزاب فقط، ولا نحتاج إلى برلمان فقط، ولا نحتاج إلى قانون فقط، ثمة شيء أعمق تحتاجه الدول، ويحتاجه الحكام، وتحتاجه القوى السياسية من أجل بناء نظام ديمقراطي، شيء يتعلق بإدراك معنى «الروح الديمقراطية». إذ يحتاج الأمر إلى إيمان الحاكم بضرورة الديمقراطية. فقد ثبت، وبخاصة في العالم الثالث، أن الديكتاتورية هي أقصر طريق إلى سقوط الأنظمة، وما حدث في مصر وليبيا وتونس هو خير دليل على ذلك.

يسود اعتقاد بأن الديكتاتورية هي طريق استمرار الحاكم في حكمه، ولكن ثبت أن لا شيء ينقذ الحاكم ويبقيه في السلطة إلا تفاعله مع شعبه، وهذا التفاعل هو الذي يسمى الديمقراطية، سواء كان ذلك عبر الانتخابات أم لا، إذ كثيرة هي الانتخابات، وبخاصة في العالم الثالث، التي تنطوي على ديكتاتورية نموذجية.

إن درس ليبيا والعقيد معمر القذافي، ليس درسا ليبيا فقط، إنه درس يفيد أي حاكم يبحث عن تواصل بقائه في السلطة، فالتفاعل مع الشعب، وإرضاء الشعب، واحترام الشعب، هو الديمقراطية، أما حين توجد كل مؤسسات الديمقراطية، ويغيب التفاعل مع الشعب، فإن الديكتاتورية تطل برأسها وتفرض نفسها.

الدروس كثيرة، ومعروضة أمام أعيننا، ولا نحتاج إلا لمن يستطيع أن يرى.