نايف.. استمرار واستقرار

TT

كالعادة، كان الملك عبد الله بن عبد العزيز، عند أمنيات السعوديين، وعين الأمير نايف بن عبد العزيز وليا للعهد.

الخبر وقع موقعا حسنا لدى الأكثرين؛ أولا بسبب سرعة البت في الأمر، حيث لم يفصل بين مواراة الراحل الكبير، ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز، الثرى، وتعيين الأمير نايف، إلا أيام العزاء، وثانيا بسبب سهولة الأمر وسلاسة الانتقال، دون مشكلات توقعها البعض في الخارج أو حتى في الداخل، وذهبت كل الظنون أدراج الرياح، وثالثا بسبب شخص المختار لولاية العهد، وهو الأمير نايف، وزير الداخلية القوي، ورجل الحكم الحصيف والرصين، الذي تحمل ثقل المسؤولية الكبرى طيلة المرحلة التي كان فيها الأمير سلطان يتعالج أثناءها. رابعا وأخيرا، بسبب الظروف القلقة المحيطة بالمنطقة منذ نحو سنة، فحروب هنا وهناك، وقلاقل، وانفلات أمني، ومستقبل غامض.

الناس، أي ناس، في أي مكان وزمان، تريد من السلطة التي تحكمها مطلبا أساسيا ومطالب أخرى تأتي بعد توفر هذا المطلب الأساسي، المطلب الأساسي هو الأمن والاستقرار، ثم مطالب العيش الكريم، ولو بحده الأدنى، وتتنامى المطالب تصاعديا، مثل طبقات البناء، وفقا لتوفر الطبقة السفلى ثم الأعلى فالأعلى. لكن الأهم أنه إذا فقد الأساس، وهو الاستقرار، فقد كل شيء معه، والأمير نايف طيلة فترة عمله المديدة في الأمن، من عهد الملك فيصل، وهو معني بالدرجة الأولى بتوفير الأمن للسعوديين وغير السعوديين من المقيمين على أراضي البلاد، وكان نجاحه الأكبر والمثير هو الأخير، المتمثل في قهره لتنظيم القاعدة في السعودية وإجباره إما على الاستسلام أو الموت أو الهرب إلى خارج البلاد.

حينما وحد الملك عبد العزيز المؤسس، أجزاء البلاد، كان يكرر دوما في خطبه وأحاديثه ومكاتباته أنه إنما يسعى لسوس الناس بالعدل المستند إلى الإسلام، وتحقيق الأمن والعيش الكريم، وكان لا يتهاون أبدا في مسألة الاستقرار والأمن، وسانده الناس في أرجاء الجزيرة العربية بالغالي والنفيس، بالمهج والأرواح، لأنهم كانوا في الحقيقة يساندون «مشروع» عبد العزيز، الذي هو مشروعهم.

من لم يقرأ تاريخ هذه البلاد، من أهل الخارج أو الداخل، قد يستغرب عمق إيمان الناس بالدولة وأحقية أسرة الملك عبد العزيز بالحكم، ولكن من قرأ وعرف المحن والفتن والفقر والقلاقل التي مرت بها البلاد، يعرف أن أحلام الناس وآمالهم ومصالحهم قد انعقدت بالحكم السعودي كما ينعقد ماء المطر بالغمام، وعطر الورد بالبتلات، ولحاء الشجر بالجذوع.

كل مرحلة تضيف على التي قبلها، وتستفيد منها، سواء بتنمية الصحيح أو بتلافي الخطأ، أو بتطوير القديم.

بعد سقوط الدولة السعودية الأولى إثر الحملة التركية المصرية عليها وحصار وهدم العاصمة الأولى الدرعية وحمل الإمام إلى مصر فالأستانة وإعدامه هناك 1818، حدثت فترة من الفوضى، ثم تمكن الإمام تركي بن عبد الله، من العودة مجددا للحكم، وبايعه العموم من أهل قاعدة حكمه، ولكنه كما يذكر عدة مؤرخين ودارسين لهذه المرحلة، كان يتمتع بذكاء ومرونة وإدراك لأسباب الإخفاق في المرحلة الأولى: «فاتبع سياسة اتصفت بالمرونة مع الدولة العثمانية». (كريم الركابي، كتاب التطورات السياسية الداخلية في نجد، ص68، نقلا عن الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، وبيلي ويندر، ومجلة «الأبحاث»).

ونفس هذه المرونة والحصافة السياسية اتصف بها نجل الإمام تركي، وهو الإمام فيصل بن تركي، جد الملك عبد العزيز، فرغم الهزات والصعوبات والهزات الشديدة التي مرت بها فترة حكمه، على مرحلتين، والحملات الخارجية، والمناورات البريطانية والفرنسية، حتى توفي سنة 1865، فإنه كان شديد الدقة في المواءمة بين تطبيق الشرعية الدينية الداخلية، والواقعية السياسية في التعامل مع القوى الخارجية، ويتجلى ذلك أكثر شيء في أحاديث الإمام فيصل مع المبعوث البريطاني الكابتن لويس بيلي، في السنة الأخيرة من حياة الإمام. وكلنا نعلم عن المرحلة التي أعقبت وفاة الإمام فيصل بن تركي والنزاع الحربي الرهيب بين ابني الإمام فيصل، عبد الله وسعود، الذي انتهى بنهاية الدولة الثانية، لكن بعد ذلك ولد الفجر الكبير، فجر أعجوبة الجزيرة العربية، الملك عبد العزيز، الذي اعتصر كل التجارب، وأضاف عليها من عقله الكثير والغزير، وكان واعيا تماما لدروس الماضي وحاجات الحاضر، ومرنا جدا لعدم الانحباس في الماضي، كما كان يردد دائما بيت الشعر العربي، بعد أن عدله:

نبني كما كانت أوائلنا تبني

ونفعل «فوق» ما فعلوا!

يذكر أمين الريحاني في كتابه (تاريخ نجد الحديث وملحقاته ص 101) أن الملك عبد العزيز قد شرح له بالتفصيل أسباب نهاية الدولة السعودية الثانية، وما هي الأخطاء السياسية التي وقع فيها الإمام عبد الله، بشكل يبرهن على يقظة الملك عبد العزيز السياسية وحساسيته العالية لدروس التاريخ، ويبرهن أيضا كيف أن المسيرة، منذ نحو ثلاثة قرون، هي مسيرة تراكمية مفيدة، وليست مجرد مراحل متقطعة. إن بقاء الحكم السعودي طيلة هذه القرون، كل مرحلة بثوب جديد، وحاجات مختلفة، هو دليل على أنه مشروع يملك أسباب بقائه الداخلية المستمرة، والنابعة من الناس أنفسهم، فهو إذن مشروع محمي بحض الناس.

لم يكن التاريخ ناعما أو رحيما، ولم تكن التحديات سهلة أو يسيرة، ولم تكن خالية من العرق والدموع والدماء، ولكنها كانت كلها تؤكد مرارا أن مشروع الدولة والاستقرار والاستمرار، السعودي، هو الذي ينتصر في النهاية، وينتصر بقوة الدعم المعنوي العميق، وليس بمجرد أسباب القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية.

الآن، الملك عبد الله بن عبد العزيز، كان وما زال رجل المرحلة الكبير، فهو الذي قاد السفينة السعودية بأمان في بحر الإرهاب الهائج بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وبعد غزو العراق، وبعد موجة الإرهاب العنيف داخل البلاد، وهو الذي جدد شرعية الدولة بعد هبوب ما يسمى برياح الثورات العربية، وهو الذي قاد الآن عملية ترتيب بيت الحكم وموقع ولاية العهد بكل يسر وسهولة، وعبد الله بن عبد العزيز «أضاف» للشرعية ألقا ونضارة، ولم يجمد عند حدود الماضي، ولم ينقطع عنه، فكسب بذلك ولاء الشعب واحترام الخارج، وقد أشار ولي العهد الأمير نايف إلى ذلك في أول خطاب له بعد تنصيبه، حينما أوضح كيف أن الملك عبد الله هو الذي جنب البلاد القلاقل والفتن في هذا العام العجيب.

ما نريد قوله في هذا العرض الموجز بمناسبة الخبر السعودي الكبير بتعيين الأمير نايف وليا للعهد، هو أن هذه السلاسة في انتقال السلطة ليست بلا مبررات اجتماعية أو تاريخية، بل هي قرار شعبي بالحفاظ على الدولة من خلال الحفاظ على بيت الحكم متماسكا معافى قويا، أن الشعب هو من يحضن الدولة وقيادتها، والقيادة هي من تفهم هذا الحب والولاء العميق.. والعقلاني أيضا.

الشعب يريد الاستقرار والاستمرار.. مع الإصلاح طبعا، وفق حاجات المجتمع.

ميزة هذه الدولة هي الإمساك بالتاريخ بيد، ومد اليد الأخرى إلى المستقبل، ودون هذين الجناحين لا يطير الوطن نحو الأعالي.

[email protected]