تونس بشير أم نذير؟

TT

كثير من القراء يرغبون في قراءة المواضيع التي هي إما أسود أو أبيض، بمعنى أن يقول لهم الكُتاب قولا نهائيا وقطعيا في موضوع ما، إما أنت مع الربيع العربي أو ضده، أو أنت ضد أميركا أو معها، على سبيل المثال لا الحصر.

الحياة الواقعية فيها الكثير من الرمادي، وهذا ينطبق على مسيرة الأحداث في تونس. قيل منذ زمن إن الثورات يفكر فيها الحكماء، وينفذها المغامرون، ويستفيد منها الانتهازيون، ويبدو أن ربيع العرب ليس استثناء من ذلك القول الفصيح. واضح أن نتائج الانتخابات الأخيرة في تونس كاد أن يخطف بعضها الانتهازيون الذين عزفوا على حاجة الفقراء للخبز والعمل، فقرروا أن يطعموهم الأوهام، ولكن الله ستر جزئيا في اللحظة الأخيرة، هذا من جانب، ومن جانب أهم أن نجد حزب النهضة، وهو حزب إسلام سياسي بلا جدال، ينال قسط الأسد من نتائج الانتخابات العامة.

شخصيا أعرف السيد راشد الغنوشي منذ سنوات طويلة، وقرأت له ما كتب – على الأقل في الثمانينات – لم يكن ما كتب مشروع حكم لتونس أكثر منه إدانة لابن علي. اليوم بن علي خارج الصورة، إلا أن أكثر ما لفت انتباهي بعد إعلان النتائج، صورة كاريكاتيرية لابن علي وهو منقلب على ظهره مغرق في الضحك، وهي إشارة من راسم الكاريكاتير أن النتيجة الانتخابية لم يتوقعها معظم من قام بثورة الياسمين التونسية! أو هكذا فهمت الكاريكاتير! إلا أن إدانة الماضي لا تقدم الكثير للمستقبل، فالمطلوب خطة واضحة للمستقبل الذي لم يتبين بعد، من حزب النهضة.

نتائج الانتخابات باتت معروفة، أكثرية من النهضة تحوز على المقاعد، وبعدها حزب أو أحزاب اليسار، ما يجمع بينهم طول اضطهاد نظام بن علي لهم، لا أكثر، وربما يواجه السيد المنصف المرزوقي – زعيم ثاني تجمع انتخابي، المؤتمر من أجل الجمهورية – إن لم يكن حذرا، ما لقيه الليبراليون في إيران، إبراهيم يزدي أو قطب زاده، ورفاقهم الذين لم يشفع لهم نضالهم الطويل ضد شاه إيران، أن يشنقوا أو يهملوا. فالتحالف مع حزب ديني في الغالب، يوصل إلى شيء من الشمولية ونبذ الآخر المختلف.

الحراك التونسي الكبير الذي لا شك أنه تاريخي، تحرك قطاره من محطة آسنة مليئة بالاضطهاد والقمع والفساد، إلا أن ركابه لم يتفقوا بعد إلى أي محطة يتجه، هل هي محطة الحداثة، كما يراها المرزوقي ورفاقه، أم شيء من الحكم التراثي الذي لا تستطيع النهضة مهما قالت من تصريحات مفارقته؟!

الخطاب السياسي للنهضة يختلف عن الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية، وما يردده حزب النهضة من التماثل بينهما هو خيالي أكثر منه واقعي. الأسباب كثيرة، فحزب العدالة التركي جاء من تجربة تاريخية هي علمانية في الأساس، تجربة كمال أتاتورك، غيرت من تركيبة المجتمع التركي، لذلك لم يتردد رئيس وزراء تركيا، رجب طيب أردوغان، في القول على الملأ في القاهرة وفي عز الزخم الربيعي العربي، إنهم دولة علمانية، وحزب متدين! لم يرق ذلك لكثيرين في فضائنا العربي، حتى إنهم تظاهروا بعدم سماع التصريح، ولكن فوق ذلك فإن الأهداف التركية هي أهداف اقتصادية في الأساس، إما بسبب محاولتهم الدؤوب الدخول إلى جنة السوق الأوروبية المشتركة، أو بسبب محاولاتهم رفع مستوى المعيشة في الداخل التركي، وربما للسببين معا. النهضة لم يخبرنا بتصوراته الاقتصادية وخططه إلا في الخطوط العريضة، تكفي الإشارة إلى تراجع مؤشر بورصة تونس بمجرد إعلان النتائج الانتخابية، أخبرنا فقط بآيديولوجيته. مع المتابعة للتصريحات الكثيرة منذ إعلان النتائج، كان الحديث النهضوي في مجمله حديثا آيديولوجيا وليس اقتصاديا. مع نتائج أحداث أبوزيد والقصرين وأماكن تونسية أخرى، تقول لمن يريد أن يرى أن لب المشكلة التونسية هو الاقتصاد لا الآيديولوجيا، فتوفير العمل لعاطلين بشهادات عليا! الأولية القصوى، وهو في تقديري لب المشكلة المصرية واليمنية والسورية وربما حتى الليبية.

لا أريد أن أستبق الأحداث فأقول إن نتائج الانتخابات التونسية الحرة هي سلبية، ولكني منذ الآن أتحفظ على النتائج أن تكون إيجابية، محطة راشد الغنوشي الذاهب إليها قطاره معاكسة لمحطة المنصف المرزوقي وحلفائه الذاهبين إليها، والمجلس المنتخب، وهو المجلس التأسيسي، هو أخطر مجلس في التاريخ التونسي ما بعد الثورة، هو مجلس سوف يكتب الدستور الذي سوف يحدد ليس مسيرة تونس ولكن مستقبل أجيالها القادمة.

من هنا فإن التجربة التونسية يمكن أن تكون بشيرا ومقدمة متميزة لربيع العرب، إن أحسن اللاعبون الأساسيون فيها استخدام هذا الترخيص الشعبي، للذهاب إلى محطة الحريات والاكتفاء الاقتصادي وإعلاء سلطة القانون، أما إذا غرقت في النواح الآيديولوجي، وهذا ما أتخوف منه بسبب الخبرة القليلة في الحكم للقوى الجديدة، أو هي توجهت إلى الإشباع الشعاراتي والحرمان الاقتصادي، فإنها ستكون بمثابة النذير لكل المقبل من نتائج التغيرات الهائلة التي أحدثها ربيع العرب. المهمة صعبة وكبيرة وتحتاج إلى محترفين لا هواة، فالنقد الحاد لما مضى، سواء في الزنازين، أو على أرصفة المقاهي، يختلف عنه في الحكم، وتحديد مسيرة مستقبل شعب كامل.

آخر الكلام:

العرب في دولهم المختلفة يعرفون المشكلات المحيطة بشعوبهم من القيادة إلى القاعدة، إلا أن كثيرا منهم تنتابه حالة من الإنكار، لا يستطيع معها أن يقدم الحلول المناسبة في الوقت المناسب، لهذا السبب كثيرا ما تأتي حلولهم خارج التوقيت.