السواري

TT

نشهد في السنة الأولى من العقد الثاني من هذا القرن انتفاضات عربية لا ندري حتى الآن أي صفة نطلق عليها، فهي ليست ثورات آيديولوجية تطرح نفسها بديلة لنظام متعب تجاوزه الزمن، وهي ليست نظرة جديدة إلى القضية العربية أو مسألة الوحدة، وهي ليست مناداة بالانفتاح على الديمقراطية بمعناها الحقيقي، إنها مجموعة قضايا محقة ومتفاوتة تفاوت البلدان وطبائع الأنظمة، وهي في غالبيتها الفاعلة دعوة إلى الماضي وليس إلى التجدد، بل إن الأنظمة المعرضة للثورة والسقوط كانت، في هذا الباب، أكثر انفتاحا في الشكل إلى الاتجاهات العالمية، في الاقتصاد والسياسة وحتى في الاجتماع.

غير أن ما أفضت إليه التجربة في تونس وفي ليبيا أظهر أن ما بدأ دعوة إلى الحرية والديمقراطية، انتهى في تنويعات الإخوان المسلمين، من الصيغة التونسية «اللايت»، إلى الصيغة الليبية بطابعها الليبي، إلى الصيغ التي ظهرت في مصر، ما بين التشدد المندفع والتمهل المتأني.

قبل قرن من اليوم، أوائل القرن الماضي، تميزت المرحلة بالأفكار الواضحة والدعوات التي رفعها المفكرون، من دون أي التزام عقائدي في اليمين أو في اليسار. كان هدف النهضويين مخاطبة الناس وترقية المجتمعات، وليس الوصول إلى الحكم أو إسقاطه. وقد ترك المفكرون الرحابيون أثرا ليس عميقا فحسب بل جميلا في النفوس، ولم يستخدموا اللغة الخطابية التي يلجأ إليها حواة السياسة وسحرة العنف، بل غرفوا من المعارف والتراث والحداثة ومحاسن الآخرين.

من الصعب أن نعدد أسماء تلك الكوكبة من دون الوقوع في ظلم النسيان والغفل، لكنها كانت مرحلة عباس محمود العقاد وأحمد لطفي السيد ومصطفى صادق الرافعي وزكي نجيب محمود، وفي المهجر كانت مرحلة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. وقد انعكست تلك الريادات على الحركة الثقافية والفكرية في سوريا والعراق ولبنان، الذي كانت صحفه آنذاك تنشر الفكر والثقافة بدل الغرق في سفاسف السياسيين وسفه الخطاب.

ليس للحركات الاحتجاجية الراهنة من مرسى فكري، ليس من شاعر كردي يدعى أحمد شوقي يعلم الناس النسب العربي، وليس من آخر يدعى أحمد أمين ويكتب «ضحى الإسلام». ليس هذا قرن الأفكار، لا عندنا ولا عند سوانا، هذا عقد جديد من البحث والضياع، وكلما أحس الناس بالفراغ استندوا إلى سواري الماضي.