الجلاد المريض!

TT

بعض الزعامات في دول العالم الثالث تحتاج إلى طبيب نفسي أكثر ما تحتاج إلى أستاذ علوم سياسية أو خبير اقتصادي أو عالم اجتماع سياسي للتعامل مع مشكلات إدارتها للحكم. وإذا كانت السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، فإن السلطة الأبدية هي من أخطر ما يهدد الحاكم الفرد، المطلق الصلاحيات، الذي يحكم بسلطان العنف والاستبداد والسيطرة.

هذا النوع من السلطة يحول أصح البشر نفسيا إلى حالة «الجلاد المريض» الذي يتلذذ بممارسة كل أشكال القوة المفرطة على رعاياه.

وقد عرف التاريخ من هؤلاء: نيرون، وقارون، والإسكندر الأكبر، ونابليون، وستالين، وهتلر، وعيدي أمين، وموبوتو، وتشاوشيسكو.. وعشرات من جنرالات أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وإذا توقفنا طويلا أمام حالتي صدام حسين والقذافي فإننا سنجد فيهما حالة «الجلاد المريض» الذي حينما حكم طويلا مستفردا بالسلطة والأمن والمال والبلاد والجهاد، أصبح منطق الحكم هو أن الحاكم الفرد أهم من شعبه، وأن سلامته الشخصية أهم مائة مرة من سلامة أراضيه ومواطنيه. لذلك لم يكن غريبا أن يتسبب صدام في أكثر ثلاث حروب في العالم كلفة عقب الحرب العالمية الثانية، فقد حارب إيران وقام بغزو الكويت ودخل في حرب عقيمة مع جورج بوش الابن.

ولم يكن غريبا أيضا أن يحارب القذافي في تشاد ويفجر ميادين القاهرة ويرسل أسلحة إلى آيرلندا ويفجر طائرة فرنسية وأخرى فوق لوكربي ويفجر ملهى ليليا في برلين وتكون له أصابع تخريبية في لبنان والسودان واليمن و.. أبو نضال وكارلوس.

كان صدام يرى في نفسه «المهيب القائد»، وكان القذافي يطرب فرحا بلقب ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب.

إن حالة «الجلاد المريض» هي التي توصل بعض الحكام إلى حالة تأليه الذات - والعياذ بالله - وإلى حالة ما يعرف بجنون العظمة.

إنه من مفارقات القدر أن يجد الثوار في جيب سترة القذافي عند أسره تعويذة عراف كي تحميه من الموت! إن الرجل الذي ادعى العلم والثقافة والتاريخ وتقديم «الكتاب الأخضر»، ذلك الكتاب المهزلة الذي ادعى أنه الطريق الوحيد لإنقاذ الأنظمة العالمية من أزمتها، اعتقد جازما بأن استمراره في الحكم يمكن أن يعتمد على تعويذة عراف!

الحاكم يستمر في حكمه بقدر التزامه بالعقد السياسي الموقع بينه وبين شعبه. الحاكم خادم لشعبه وليس سيدا يستعبد مواطنيه.

السؤال الشجاع الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: ما هو دورنا كشعوب ونخبة في صناعة الحاكم الطاغية الذي حولناه إلى حالة «المريض الجلاد»؟!

ألم نخرج له في مظاهرات حاشدة؟! ألم نكتب له أنه الأعظم والأفضل والأعدل؟! ألم نهتف له «بالروح.. بالدم نفديك يا فلان»؟! ألم نؤلف له قصائد وأشعارا تتغنى به؟! ألم نطالبه من خلال مجالسنا التشريعية بالحكم مدى الحياة؟! ألم نوافق له على إصدار قرارات لها قوة القانون؟! ألم نغض البصر عن تصرفاته المالية دون رقابة مؤسسية؟! ألم نتغاض عن تعظيم وتبجيل كل من ينتمي إليه بصلة القرابة أو الزمالة أو الصداقة؟!

إذا كانت هناك جريمة ارتكبت، فإننا جميعا بشكل أو آخر، بقدر أو آخر، شركاء فيها.

إذا أعطيت إنسانا تفويضا مفتوحا بالتصرف في حقوق البلاد والعباد، دون رقابة ودون مساءلة، فماذا يمكن أن يصيب هذا الإنسان، حتى لو كان في نقاء الأم تريزا أو أبي ذر الغفاري؟!

مطلوب مصارحة الذات ومحاكمة النفس قبل محاكمة الغير.