الطائفية في سوريا.. بين أدونيس وعجمي

TT

لعل البعض فوجئ بموقف الشاعر والناقد السوري علي أحمد سعيد إسبر (المعروف بأدونيس) من الانتفاضة الشعبية في سوريا، حيث اعتبرها في أحد حواراته المتلفزة «حركة تمرد شبابية» لا تمثل ثورة بالمعني النظري التاريخي. وحذر من عواقب استخدام السلاح، والنزعة الطائفية التي تطل برأسها. موقف أودنيس المتأرجح بين الخوف والتردد جعله مثار النقد. فقد قال في مقابلة مع قناة «العربية» (20 أبريل/ نيسان الماضي): «لا أستطيع مثلا أن أقبل إطلاقا أن أنضم إلى تظاهرة سياسية تخرج من الجامع، ولكن لا أستطيع بالمقابل أن أقبل أن تقابل هذه التظاهرة بالعنف والقتل».

موقف أدونيس لم يكن مرضيا لدعاة الثورة وتغيير النظام في سوريا، وعلى الرغم من كونه مثقفا قد كتب الكثير عن ضرورة الأخذ بالحداثة والقطيعة مع التراث الإسلامي والعربي، فإن تردده في سحب الشرعية الكاملة عن النظام لم يشفع له، خصوصا بعد أن بعث بكتاب مفتوح إلى الرئيس السوري يتمنى عليه فيه الإصلاح قبل فوات الأوان، ويحذره من أن الولايات المتحدة والغرب لهم مصالح استعمارية ويرون الفرصة مواتية للانقضاض على سوريا (جريدة «السفير»، 14 يونيو/ حزيران الماضي). صحيح أن أدونيس لجأ مؤخرا إلى المطالبة بتنحي الأسد، ولكنه في الوقت ذاته لا يزال متحفظا على دعم المعارضة السورية في الخارج، ويرفض الانضمام إلى المعارضة في الداخل ما دامت غير ملتزمة – صراحة - بالقيم العلمانية والمدنية. يقول أدونيس في حوار أجري معه مؤخرا: «بنية المجتمع السوري بنية دينية في العمق وعلى جميع المستويات. هذا النظام يجب أن يسقط، لكن القوة التي ستحل محله هي القوة الأكثر تماسكا والأكثر حضورا في الأوساط الشعبية، وهذه القوة هي قوة متدينة سواء في صفوف الإخوان المسلمين أو سواهم من التيارات الإسلامية» (جريدة «الرأي» الكويتية 5 أغسطس/ آب الماضي).

ما من شك أن موقف أدونيس هو موقف متكرر ومماثل لمثقفين عرب فوجئوا بالانتفاضات الشعبية مطلع هذا العام، وباتوا مطالبين في لحظة فاصلة بأن يحددوا مواقفهم من دون إبطاء: إما الانحياز للنظام أو الوقوف مع المطالبين بتغييره. في الظروف الطبيعية يأخذ المثقف وقته الكافي لاختيار ودراسة موضوعه قبل أن يتوصل إلى رأي بخصوصه، ثم هو بعد ذلك غير ملزم بأخذ مواقف سياسية أو غيرها تجاه الشؤون العامة، ولكن دعاة «الربيع العربي» يجادلون بأن المثقفين العرب الذين كانوا يخشون أو يتهيبون نقد النظام في السابق لم يعد بوسعهم الصمت تجاه ما يحدث من قتل للأبرياء، وأنهم بحاجة إلى أن يحددوا مواقفهم الآن بعد أن أصبح النظام في مرحلة ضعف ونزاع مع الشارع.

في مقالة مهمة تحت عنوان «المثقفون العرب الذين لم يزأروا» («نيويورك تايمز» 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي)، يتناول الصحافي الأميركي روبرت ورث حالة التيه التي تنتاب المثقفين العرب خلال «الربيع العربي»، حيث لا توجد في تلك الانتفاضات الشعبية ملامح لحركة فكرية جديدة، أو لقيم بارزة، أو حتى لرموز ثقافية تقود المسيرات أو تعتلي المنصات كما حدث في أوروبا الشرقية عشية 1989، بل على العكس من ذلك. هناك شباب ثائرون في الشوارع يصطدمون بالقوات الأمنية أو الجيش في تحد واضح للنظام، وفي مقابل ذلك، هناك أنظمة عسكرية مذعورة تحاول التترس خلف قواتها المسلحة كطوق نجاة أخير قبل غرق السفينة. أمام هذا المشهد يقف المثقف العلماني/ الليبرالي محاصرا، فهو لا يسعه الوقوف مع النظام العسكري (شبه - العلماني) بعد سقوط كل تلك الدماء، ولا يستطيع الركون إلى الشارع الذي ينطلق من المساجد، ويعج بعشرات الهتافات الدينية، والطائفية، والقبلية، والمناطقية.

كان فؤاد عجمي قد التقط هذه الحيرة قبل عقد ونصف من الزمن حينما نشر كتابه «قصر أحلام العرب: أوديسة جيل» (1998)، وأشار بعبارة الخبير إلى أن أزمة العالم العربي لم تكن قط في الديكتاتورية الفردية أو الأنظمة المستبدة التي حكمت دول المنطقة، بل في مثقفيها الذين لم تتوافر لديهم الشجاعة الكاملة في أن يواجهوا لا النظام السياسي المستبد وحده، بل والنظم الثقافية والدينية والتقليدية التي كرست ثقافة الخوف والكراهية للآخر، والاعتداد النرجسي بتاريخ قومي وديني ماض. يقول عجمي: «من تلقاء أنفسهم، في الثكنات والأكاديميات.. ابتنى العرب لأنفسهم قصرا من الأحلام.. صرحا فكريا من القومية العلمانية والحداثة»، ولكن ذلك القصر لم يكن إلا وهما لأنه لم يستطع أن يتجاوز الأسس الثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية، بل وارتد المثقفون العرب إلى التراث إما بحجة نقده، أو طلبا للإلهام من اجتهادات السابقين.

في مراجعته لكتاب عجمي، ينبهنا البروفسور آفي شليم إلى أن أطروحة عجمي التي تحمل المجتمعات العربية - وحدها - أسباب الفشل، هي مدرسة قليلة العدد بالمقارنة مع المدارس الأخرى - كالقومية الناصرية أو البعثية - التي تحاول أن تضع اللوم كله على الاستعمار ومكائد الدول الغربية، أو الحكام الذين يقيمون تحالفات معهم. هناك أيضا المدرسة الإحيائية الإسلامية التي ترى أن أسباب التخلف والهزيمة يمكن ردها إلى البعد عن النموذج الديني (المثالي/ اليوتوبي)، والتأثر بالنزعات المادية العلمانية. يقول شليم: «بين هذه الأطراف المتناقضة ثمة العديد من المواقف الوسيطة لتفسير الورطة العربية» («اكسفورد برس 16 مارس/ آذار 2001).

مؤخرا، حذر الرئيس السوري بشار الأسد في حوار مع جريدة «صنداي تلغراف» (30 أكتوبر الماضي) من أن المنطقة ستتعرض إلى زلزال إذا ما تعرضت دمشق إلى غزو أجنبي. يقول الأسد: «سوريا اليوم هي مركز المنطقة. إنها الفالق الذي إذا لعبتم به تتسببون بزلزال.. هل تريدون رؤية أفغانستان أخرى أو العشرات من أفغانستان؟». في الحقيقة، الأسد محق، فهو قد أحرق - ونظامه - كل وسائل الخلاص من الأزمة، بحيث بات التخلص من نظامه شرا أهون من شر بقائه، بل يمكن القول إن بعد تلك الدماء التي أريقت لم يعد هناك من حاجة لبقاء نظام الأسد، فالأوضاع قد تدهورت إلى الوضع الذي بات معه الانتقال إلى المرحلة الغامضة أقل خطورة من دعم نظام دموي مستبد مصمم على زعزعة استقرار المنطقة.

لقد أصاب أدونيس حينما حذر من تبعات النموذج السوري على التجربة العلمانية/ الحداثية في بلده، ولكن لم يعد في سوريا ما يمكن الإبقاء عليه. يقول مسؤول عربي: «لقد تعمد نظام الأسد استهداف مصالح جيرانه، ثم بات يتعاطى مع شعبه بطريقة لا يمكن السكوت عنها إنسانيا، فماذا بقى للآخرين ليدافعوا عن سياساته؟». لقد أخطأ أدونيس - أيضا - حينما استخدم حجج الاستعمار الغربي - وإسرائيل - ليحذر من الخطر الأجنبي وهو يعلم حقيقة أنها قضايا باتت جانبية بالنسبة لما تعانيه الدول العربية من مواجهات دموية مع أنظمة جمهورية استبدادية.يمكن القول إن نظام بشار الأسد - بتحالفه مع الملالي - قد تحول إلى خطر استراتيجي - بل وجيوسياسي - على دول الخليج بعد أن سخر كل قدراته للنيل من مصالحها واستقرارها.

اتهم فؤاد عجمي بالطائفية زمنا، وبالوقوف ضد القضايا العربية زمنا آخر، ولكن أحداث «الربيع العربي» الأخيرة قد أثبتت أنه مثقف مستقل غير مرتهن بالطائفية، أو القومية، بل هو أكثر قربا والتصاقا بشروط التعايش الاجتماعي والإصلاح السياسي، من مثقفين عرب كان يقال عنهم إنهم داعمون للمقاومة وتحرير فلسطين، من نظرائهم الآخرين.

لقد كتب عجمي أن دول الخليج بأنظمتها الملكية أكثر انسانية وتحضرا من نظيراتها من الجمهوريات (العروبية) العسكرية، وحتى في الموضوع البحريني الذي اساء الاعلام الغربي تفسيره كان عجمي واضحا في رفض الادعاءات الظالمة في حق مملكة البحرين حيث عزا ما حدث إلى التوترات الطائفية اكثر من غيرها.

قارن مواقف عجمي بمواقف مثقفين وكتاب عرب لطالما رفعوا شعارات المقاومة وتاجروا بالقضية في الاعلام الخليجي والعربي ولكنهم سقطوا في الامتحان الكبير.

يقول جوزيف كونراد: إن (الحب قد يرتدي أحيانا أثواب الخيانة).