من بوسطن إلى تونس إلى القاهرة!

TT

لكل رحلة نهاية، وبعدها يعود المرء إلى ما اعتاد على تسميته وطنا، مثله مثل كل بقاع الدنيا أرض وماء، ولكن أرضه وماءه تظل في علاقتها بالإنسان/ المواطن تختلف عن كل العلاقات، فلا تعود الأرض كما هي أرض، ولا الماء له وظيفة ارتواء الإنسان من العطش، وإنما يصبح هذا وذاك رابطة فيها شجن وحنين ومعنى لا يوجد في أماكن أخرى. وباختصار انتهت مهمتي في الولايات المتحدة التي بدأتها منذ شهرين للتدريس في جامعة برانديز، ولكن دائرة المحاضرات امتدت لكي تصل إلى بوسطن بالطبع، وواشنطن، ونيويورك، وشيكاغو. وكان الموضوع واحدا في كل الأحوال وهو «الربيع العربي»، وأحيانا كان السؤال الجوهري مهما اختلفت المدينة أو الجامعة أو المؤسسة التي جرى فيها الحديث: ما تأثير ذلك على الصراع العربي - الإسرائيلي؟

لقد كتبت في هذا الأمر من قبل محاولا الإجابة عن السؤال: كيف يكون السلام في زمن الثورة؟ ولكن السؤال الأخطر كان عن مستقبل «الربيع»، وهل سوف تتفتح فيه زهور وورود، أم أن عواصف رملية حارة سوف تسود خانقة وباعثة على الغضب. كانت آخر المحاضرات التي حضرتها عن الظروف التي عندها يطلق الجيش العربي الرصاص على المواطنين حيث كان ذلك هو الفارق ما بين ثورتي تونس ومصر من ناحية، وثورات ليبيا وسوريا واليمن من ناحية أخرى. وكان السؤال الذي خالجني هو أن المحاضرة تحدثت وحللت البدايات، ولكنها لم تقل كلمة واحدة عن النهايات أو الخواتيم، وعندما جرى الإلحاح عليها، جاء تأكيدها قاطعا بأن على المهتمين أن يفكروا في كل الأمور الأخرى غير الديمقراطية!

الفرضية ما زالت أننا - العرب - لسنا جاهزين بعد لتلك العملية الصعبة والمؤلمة للديمقراطية، فلا طبقة وسطى واسعة، ولا قيم ديمقراطية وقانونية مستقرة، ولا طبقة صناعية ناضجة تحتاج إلى استقرار قائم على حكم أغلبية تعرف أنها سوف تستمر في السلطة لفترة ولكنها بعد ذلك عليها أن تعود إلى الشعب مرة أخرى لكي يقرر في أمرها ما يشاء.

كان الكلام بالتأكيد مؤلما، ولكن داخله كان هناك شرط آخر أقوى من كل الشروط الأخرى في السماح أو في المنع للنظام الديمقراطي، وهو ما سوف يفعله الإسلاميون في الحكم، وهم الأقرب إلى السلطة. كنت قد قرأت مقالا جميلا للزميل إبراهيم عيسى في موقع «الدستور» (الأصلي) يرحب فيه بتولي الإسلاميين، وقدم حججا قوية منها التنظيم والقدرة على الفعل والقيادة، وقبل الثورة دفعوا الثمن غاليا، وبعدها فإنهم سوف يتعرضون للاختبار «الديمقراطي» بعد سنوات قليلة. وهذه وجهة نظر جديرة بالاحترام، ويمكن لكثير من الليبراليين أن يؤيدوها، ولكن المعضلة الكبرى هي ماذا يكون الحال لو لم تكن هناك انتخابات أخرى، وجاء وقت الاختبار وأصبح ساعتها من الأمور المستوردة المقحمة على خصوصيتنا الديمقراطية والباعثة على الانقسام والفوضى والانهيار الأخلاقي وإعطاء أميركا وإسرائيل الفرصة للسيطرة والهيمنة علينا؟ وكل ذلك وسط «هستيريا» أخلاقية تضع المرأة في مكانها «الطبيعي»، وتعيد صياغة «السياحة» من جديد حيث تأتي رؤية جديدة لم يعرفها العالم من قبل.

ولحسن الحظ أن شعاعا من ضوء جاء هذه المرة على البعد من تونس، التي يبدو أنها سوف تصير مصدرا للإلهام العربي. فجرت فيها الانتخابات بحضور 85 في المائة من الناس، وفاز حزب النهضة «الإسلامي» بنسبة 41.5 في المائة من مقاعد الجمعية التأسيسية. وهي نسبة مدهشة ولا شك، ليس فقط لأنها جاءت تبرهن على شعبية حزب، وإنما لأن البرهنة جاءت رغم غياب الحزب عن البلاد لسنوات طويلة. وحتى لو كان ذلك هو السبب في الشعبية التي وصل إليها، فإن الجانب الآخر للشعبية جاء من البرنامج المتفتح والليبرالي الذي قدمه، والذي لا يقترب فقط من تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، ولكنه يزيد عليها أنه جاء في أعقاب ثورة وليس من خلال عملية تدريجية في بلد استقرت فيه الليبرالية والعلمانية. ومن بين 90 عضوا منتخبا كان هناك 42 سيدة، وهي نسبة لم تحدث في بلد ديمقراطي غربي من قبل.

كانت البشرى التونسية مؤكدة على أن التيارات الإسلامية هي التي سوف ترث نظم الحكم الآفلة بعد ثورات «الربيع العربي»، ولكن السؤال الباقي أصبح عما إذا كان التيار الإسلامي المقبل ليبراليا متفتحا على العالم، أم أنه متشدد وأصولي وانعزالي ويبحث عن تأكيد نفسه في معركة جديدة مع العالم.

هنا أصبحت القاهرة في مركز الفكر والبحث، فمصر بغض النظر عن قصة قلب العروبة النابض، فإنها تدخل عالم التسعين مليونا من البشر، أو قرابة ربع العرب في دولة واحدة، وما يجري فيها سوف ينظر إليه من قبل ثورات أخرى جارية في دول عربية أخرى، وحتى من الدول التي ما زالت تعاني من المخاض والقلق. ولكن القاهرة ليست سهلة الفهم، والإخوان المسلمون فيها لم يدخلوا مرحلة التحديث والانفتاح التي مر بها آخرون، وما زال كثيرون منهم يدورون حول رسائل الإمام الأكبر، وكأن العالم لم يتحرك خطوة واحدة منذ أكثر من ستة عقود. وربما عكس معضلة الإخوان المسلمين في مصر ذلك المشهد الذي تفاعلوا فيه مع زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى مصر حينما استقبلوه بلافتات تحيي الخلافة العثمانية والدعوات بعودتها بعد أن طال شوق البعاد لمقعد الخليفة. ولكن وداع الرجل كان مختلفا تماما، بعد أن تحدث عن ازدهار «المرجعية» الإسلامية في بلد علماني ومدني، فقد تقطبت الوجوه السمحة، ولأنه لم تكن هناك ردود جاهزة كثيرة، اكتفى الركب «الإخواني» بالحديث عن «الخصوصية».

هكذا وقف الخليفة والعلماني وجها لوجه مشكلا قضية يستعصى فيها السؤال عن الإجابة، ويبقى بعد ذلك مستقبل الثورة المصرية، وعما إذا كان انتصارها سوف يأتي على يد الإخوان المسلمين أم أنها سوف تتجه اتجاها آخر تختفي فيه أحلام الربيع الديمقراطي، ويظهر مناخ آخر يعرف الجميع بدايته ولكن معرفة النهاية سوف تتوقف على قدرة البشر على الاحتمال.

وعندما قامت الثورة المصرية كتبت أنها على الأرجح سوف تقف متأرجحة في منتصف المسافة بين تركيا وإيران، وحتى الآن فإن ما أتى من معسكر «الإخوان» كان فيه اختلاط كبير. وعندما كانت الجماعة في «التحالف الديمقراطي» بقرب «الوفد» كانت التصريحات مدنية وعصرية ومبشرة بأن المسافة بين القاهرة وتونس ليست بعيدة، ولكن عندما خرج «الوفد» - وكان ذلك خطأ سياسيا فادحا - نتيجة ضغوط المثال على السياسة، فإن «الإخوان» وجدوا أنفسهم في الصحبة الآيديولوجية للسلفيين والجماعات الإسلامية والجهادية، وساعتها كان لديها من يستطيع المزايدة والتطرف.

كيف ستنتهي القصة؟.. سوف نعرفه قريبا عندما تبدأ الانتخابات المصرية. وساعتها سوف تكون القاهرة التي وصلت إليها هي ما عرفتها، أو بلدا آخر تماما!