الاختبار الأصعب في تونس

TT

كانت نتائج الانتخابات الأسبوع الفائت في تونس الحدث الأبرز في شبكات التواصل الاجتماعي وإن شئنا الدقة لدى نخب حركات الإسلام السياسي وكافة أطياف الإسلاميين على الإنترنت وحتى من المتعاطفين معهم من بقايا اليسار أو القوميين الذين ارتأوا أن تحالفهم الناعم والسلس مع الإسلام السياسي وتحديدا «الإخوان» سهل في حصار التيار العلماني وخنقه بحبل الوحدة الوطنية كما يقال الآن. الأكيد أن تفاجؤ القوى الوطنية التي جاءت ما بعد الثورة كان مفاجئا بحد ذاته ويدل على أن قراءة مستقبل الإسلاميين الصاعد ما زالت ملتبسة بسبب تداخل مفهوم الحزب السياسي والجماعة الدعوية والأنصار المتعاطفين وهذا لا ينسحب على تونس أو مصر أو حتى البلدان التي مسّتها رياح الثورة فقط وإنما على عموم البلدان العربية والإسلامية التي يشكل فيها الإسلاميون أكثرية اجتماعية حتى لو كان حضورهم السياسي عبر تيارات مسجلة وكوادر حزبية أقل بكثير ذلك أن التعاطف العام والشعور الذي يكاد يصل إلى شعور جمعي يقترب من حدود الحتمية التاريخية هو أن فرصتهم التاريخية تبدو سانحة جدا في ظل تحولات هائلة يعيشها الخطاب الإسلامي على مستوى السياسة ومفاهيمها وإن كان يعاني من تراجعات حادة جدا على مستوى الموقف من قضايا كثيرة اجتماعية أو الموقف من الحريات الثقافية والفن والمرأة والآخر والانفتاح الاقتصادي المرتبط بالحريات وهي قضايا تختلف تماما عن الموقف من الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة الذي يندرج تحت التطور النوعي الذي تعيشه بعض الفصائل المستنيرة داخل التيار الإسلامي بحكم أن فترة البقاء طويلا في صفوف المعارضة مكنتهم من تطوير مفاهيم الحريات السياسية ومحاولة أسلمتها بما يتلاءم مع عموم المبادئ الأساسية التي ينادي بها حتى العلمانيون في بلدان تظل رغم هذا الاستقطاب ذات هوية إسلامية وعربية متجذرة.

إنها المرة الأولى ربما في عصر الإسلام السياسي الحديث أن يصل إلى سدة الحكم عبر انتخابات ديمقراطية ويتم تجاوز «عقبة» الوصول التي لطالما حفتها اشتباكات مفاهيمية وأيديولوجية وصلت إلى حد الاحتراب والاقتتال بسبب أخطاء من جميع الأطراف إن في طريقة الفرح بالفوز والاستئثار بالكعكة السياسية أو من خلال الاستقواء بالخارج أو الجيش للانقضاض على نتائج الانتخابات.

صحيح أن هذا الفوز الذي يتوقع تكرره على أكثر من صعيد وتجربة عربية يمكن قراءته كجوائز مستحقة لماراثون طويل يقترب من القرن في الركض الدؤوب باتجاه منصة السلطة وعبر نجاحات جاءت من القاعدة الاجتماعية وصولا إلى النخب عكس ما حصل في تجارب سابقة في التحالف مع العسكر كتجربة السودان عام 89 أو حتى من خلال التحالف مع قوى اقتصادية الاتكاء على أسلمة الطبقة الوسطى كما هو الحال في تركيا إلا أن هذا التطور البطيء زمنيا والعميق على مستوى التغلغل في النسيج الاجتماعي عبر سلاح الهوية لا يكفي لفهم ما يجري، فهناك امتلاء بالحالة السياسية الإسلامية في كل من مصر وتونس واليمن بحيث أن كثيرا من التيارات السياسية المناهضة أعداء الأمس باتوا يشعرون بضرورة الاستسلام لهذه الجولة كي يتجنبوا إعادة إنتاج ديكتاتوريات ذات مضامين علمانية شكلانية أضرت بهم وجعلتهم متهمين بالتآلب ضد عموم فئات الشعب، هذا الاستسلام لا يمكن رصده من خلال المفرقعات الإعلامية على الفضائيات التي لا تعبر حقيقة عن النخب بقدر أنه يمكن تلمسه في الكم الهائل من المراجعات النقدية وقراءة استحقاقات المرحلة أو حالة العزلة والاكتفاء بالدهشة التي لا تخطئها العين هنا وهناك.

الإشكالية في التجربة التونسية وبدرجة أقل في تجارب أخرى هي حالة الاستنارة المعلنة لدى القيادات والنخب التي تقود الجماهير في ظل ارتدادات حادّة على مستوى الحالة الاجتماعية باتجاه تعزيز الهوية من خلال ممارسات متشددة في الموقف من الفن والمرأة والسلوكيات العامة المتصلة بالحريات والحقوق والتي يمكن أن تنتقل من مرحلة ردود الأفعال المبتهجة إلى الصدامات متى ما انفلتت الأمور من يد القيادات والرموز الذين يجب أن يكونوا واعين تماما لخطورة الانشقاقات عنهم وعزلهم أكثر من مناكفة خصوم الأمس الذين ليسوا ندا حقيقيا الآن.

نسبة الاقتراع العالية في تونس تدل على أن الوعي المجتمعي في تونس عامل جذب وحيوية لتغيير إيجابي قادم وفي خضم فوز «النهضة» بنسبة كبيرة فإن حزب المؤتمر ذا الميول اليسارية المعتدلة قد فاز بثلاثين مقعدا وهو رقم كبير يجب أن يكون على بال الأكثرية الفائزة.

هذا الفوز الكبير نسبيا للتيارات غير الإسلامية التي عانت كثيرا أيام كانت في مرحلة المعارضة في المهجر والتي ربما لا يكون حضورها كبيرا في الداخل يدل على أن ما يحدث الآن يعبر عن رد فعل حاد للنظام السابق وبالتالي هو انعكاس تمكين لـ«الذين استضعفوا في الأرض».

الاستحقاق القادم للطرفين وبالأخص للإسلاميين ليس في حملات الطمأنة للخارج قبل الداخل أو محاولة تقديم برامج سياسية في نفي للتهمة عن وجود مشاريع بديلة وإنما في التعامل الإيجابي مع الإرث الكبير الذي خلفته الحقبة التونسية وهو ليس بالضرورة إرثا بورقيبيا فضلا عن أن يكون لزين العابدين وإنما هو للدستور الذي حصل عليه توافق الشعب التونسي وممارسة سياسية ومعيشية لمدة طويلة.

بديهيا الحالة التونسية لا تشبه أخواتها لا شكلا ولا مضمونا وإن كان هناك تماثل على مستوى المكونات الأساسية للتيارات الإسلامية هنا وهنا على مستوى المرجعية والخطاب ومحددات الهوية مع تطور نوعي في الحالة التونسية بحكم أن هذه المفاهيم ليست رؤى مجردة تنظيرية وإنما يتم اختبارها بالتفاعل مع الحراك الاجتماعي السائد والذي لم يكن مرتهنا في الحالة التونسية بإشكاليات الطائفية والإثنية والهلع من الآخر أو إشكالية العدو القريب كإسرائيل.

ومع هذا الاختلاف والتمايز بين الحالة التونسية ونظيراتها فإن المفارقة أن انحياز القوى المتحكمة وعلى رأسها الجيش للخطاب الإسلامي في الحالة التونسية أضعف بكثير من الحالة المصرية أو اليمنية بحكم تعقيدات التاريخ المشترك وهو ما يلقي بالعبء الأكبر على حزب النهضة وطريقة إدارته للاستحقاقات القادمة. الأكيد أن أي فشل قد يعتري مسيرة النهضة - وهو ما لا يتمناه أحد - قد يأتي من انشقاقات داخل التيار الإسلامي العريض بمكوناته السلفية والشعبية التي يمكن أن يتضخم لديها الوعي السياسي لتصبح ندا يمكن التحالف معه من قبل الجيش أو القوى الأخرى في حال عدم قدرة النهضة على احتواء هذه المجموعات الصغيرة التي لا تفكر أبعد من استرداد هويتها الدينية المسلوبة وتحقيق حريتها في تطبيق ما تراه من نموذج اجتماعي.

العبء إذن اجتماعي وثقافي يتصل بطبيعة الخطاب أكثر من كونه سياسيا حيث يبدو الحزب مؤهلا للحضور بشكل غير ملائم سياسيا وإذا كان المستقلون في تونس ينادون بضرورة أن يكون حزب النهضة ذكيا في تجنب إشعال حرب مع العلمانيين بكافة أطيافهم فإن الأهم هو أن يستثمر التعاطف معه من قبل الجميع ليكون واضحا تماما فيما يريده لتونس عبر برنامج تفصيلي يراعي الإرث الذي انكسر كل شيء في تونس وبقي هو صامدا في مجتمع يمتلك كل مقومات النهوض والتحول الديمقراطي وتحقيق التنمية والرخاء الاقتصادي.

[email protected]