الحاج المؤدب

TT

بمناسبة الحج، فإن أغرب الرحلات التي قرأتها هي رحلة (أبي عبد الله العبدري) الذي بدأ رحلته من المغرب قاصدا الحج في عام (688) هجرية - (1289) ميلادية، والغرابة في رحلته، أو بمعنى أصح في شخصيته، أنه لم يمر طوال رحلته في الذهاب والإياب على أماكن إلا ذمها، وعلى أقوام إلا هجاهم، وهو ذكرني بالشاعر الحطيئة، ولا شك أن (العبدري) رجل مريض نفسيا، ولو أنه وجد في هذا العصر لاحتاج إلى علاج مكثف.

وبدأ (بتلمسان) التي اعتبرها أضر البلاد على المسافر، لا يسلم من أهلها صالح ولا طالح، أطلع الله عليهم من الآفات ما يسحتهم جميعا أصلا وفرعا، ويقطع دابرهم أفرادا وتثنية وجمعا.

ويقول عن (طرابلس الغرب): هي للجهل مأتم، وما للعلم بها عروس، ترى أجسام أهلها حاضرة وعقولهم في غيابات، كأنهم من ضيق أفهامهم لم يخرجوا بعد إلى العالم.

أما (سرت) فلم يقل فيها غير هذين البيتين:

يا سرت: لا سرت بك الأنفس لسان مدحي فيكم أخرس

ألبستم القبح فلا منظر يروق منكم لا ولا ملبس

وعن (الإسكندرية) يؤكد أن أكثر أهلها ضرر بلا انتفاع، مع سوء أخلاق ومرارة مذاق.

أما القاهرة فينطبق عليها حسب تعبيره المثل القائل: (سماعك بالمعيد خير من أن تراه)، ثم يمضي قائلا: إنها مدينة كبيرة القطر، ساكنها يحاكي عدد الرمل، وهي مع ذلك تصغر عن أن يذكر اسمها بسطر، وإذا نظرت صورتها ذكرت قول القائل:

بغاث الطير أطولها رقابا ولم تطل البزاة ولا الصقور

والحمد لله أننا غادرناها غير محمودة ولا مشكورة.

ولم يسلم أهل مكة من لسانه، وكان في ذهنه أن يمكث فيها (مجاورا) غير أنه غيّر رأيه عندما شاهد وانتقد ما يقوم به الحجاج من الزحام على زمزم، والحجر الأسود، ودخول الكعبة، ويقول في هذا الصدد: ترى الرجال يتساقطون على النساء، والنساء يتساقطن على الرجال، ويلتف البعض على البعض، ويتأهبون للقتال، ويستعدون للدفاع والملاكمة، وقلما يتمكن أحدهم من الركن فيفارقه حتى يثخن ضربا.

وأما قتالهم على باب الكعبة وتطارحهم، وتعلق بعضهم ببعض فعجب، ذلك أن الباب مرتفع أزيد من القامة، وفيه قوم وقوف تنثال عليهم الدنانير والدراهم بلا حساب، حلوانا على دخول البيت، فإذا أدلوا شخصا من الأرض تعلق به آخرون، فتراهم سلسلة، أولها في الكعبة وآخرها في الأرض، ورأيت رجلا صادف ساق امرأة، فقبض عليه من أعلاه، وتعلق به مباشرة من غير حائل.

ولم يمكث (بالمدينة المنورة) غير يوم واحد، وذلك عندما أقبل الركب على المدينة، فأخذت النشوة أحد مرافقيه فاندفع فرحا بعيدا عنهم، وما أن شاهده الأعراب، وهم أشرس وأشر خلق الله، حتى أخذوه وجردوه من ملابسه بعد الضرب المبرح، وأثخنوه جراحا، فتركناه بالمدينة منقطعا ما به من حراك، لا خفف الله أوزارهم، ولا عفا عن قبيح أفعالهم.

ويمضي في ضيقه وتبرمه من أهل المدينة ويقول: لم أجد مع شدة البحث، وإلحاح الطلب، وتكرار السؤال فيها من هو بالعلم موصوف، ولا هو بفن من فنونه معروف.

ويترك المدينة قائلا:

خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد

الواقع أن هناك بلادا كثيرة لم أوردها، كما أنني خففت إلى أقصى درجة من هجائه وألفاظه المقذعة الشنيعة، وما قرأتموه الآن هو أأدب الكلام الذي تلفظ به.

[email protected]