هل يملك النموذج التركي فرصا للنجاح في العالم العربي؟

TT

يصح القول، إجمالا، إن الصورة الجديدة للمشهد السياسي العربي العام هي الآن بصدد التشكل بعد حركات الانتفاضة التي ما تفتأ مناطق كثيرة من العالم العربي تشهدها منذ الانتفاضة التونسية في مطلع العام الحالي حتى مصرع القذافي بالكيفية التراجيدية التي كانت بها تلك النهاية، مرورا بالثورات في كل من مصر واليمن وسوريا، وعلى نحو مغاير، ربما كان خلوا من الصدامات الدامية في مناطق من الخليج العربي (باستثناء الحالة البحرينية)، وكذا في كل من الأردن والمغرب. في هذه الصورة الجديدة، يبدو واضحا للعيان ظهور تيار متنام سمته العامة المغايرة لما اعتاد الدارسون نعته بحركات «الإسلام السياسي»، من حيث إن السلفيات الجهادية تعبير عنه، وهذا من جهة، والاختلاف عن حركة «الإخوان المسلمين» وما في معناها - على ما سنحاول توضيحه بعد هنيهة، وهذا من جهة أخرى. نحن إذن أمام بوادر واقع جديد نجد فيه مكانا غير صغير لهذا التيار الإسلامي الذي نومئ إليه. واقع يستدعي إبداء جملة ملاحظات من جانب أول، والمجازفة ببعض افتراضات من جانب ثان.

فأما الملاحظات فنحن نجملها على النحو التالي:

الملاحظة الأولى، البارزة، هي أن الإسلام له فعله في الحياة الاجتماعية والثقافية للشعوب العربية بحسبانها شعوبا مسلمة، في سوادها الأعظم، وفي أقلياتها شعوبا يشكل الإسلام فيها العماد الثقافي والمرجعية الأساس في السلوك وفي الفكر.

الملاحظة الثانية، هي أنه لا مكان في الوعي العربي الإسلامي للغلو في الدين ولا للتطرف في كافة أشكاله ومظاهره. والدليل الأقوى على ذلك هو أن ميدان التحرير (من حيث دلالته الرمزية والقابلة على التعميم على كل العالم العربي) لم يرتفع فيه أي من شعارات السلفية الجهادية أو من شعارات الغلو الديني جملة، مما يدل على غيابها في حقيقة الوجود الروحي للعرب. يمكن القول، بكيفية أخرى إن كل ما يقال عن «السلفيات الجهادية» وما يمكن نعته جملة بالخوف من الإسلام، إنما هو من قبيل «التخويف من الإسلام»، (كما عرضنا لذلك في إحدى المرات من هذا المنبر). والتخويف من الإسلام استراتيجية أخذت بها الديكتاتوريات العربية فجعلت منها ذريعة تقصد إصابة هدفين اثنين في الوقت ذاته؛ هدف أول، خارجي، هو حمل الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية خاصة على مساندة النظام الديكتاتوري في البلد الذي يوجد فيه ذلك النظام، وبالتالي اعتبار النظام المشار إليه حليفا منطقيا وطبيعيا للغرب، ومن ثم تجب مساندته والتغاضي عن انتهاكاته لحقوق الإنسان في بلده. وهدف ثان، داخلي، هو توهيم الموطنين في البلد أن النظام السياسي، يحمي الناس من عنت وطغيان دعاة التطرف الديني وأن النظام، الديكتاتوري في ظاهره، إنما يفعل ما يفعل اضطرارا لذلك وحماية لأهل البلد. وفي كلمة جامعة فإن التخويف من الإسلام يصيب أهدافا شتى ويحقق مصالح مشتركة بين النظم الديكتاتورية وبين العالم الغربي بزعامة أميركا.

الملاحظة الثالثة، والأخيرة، هي أن ظهور حركات العنف والغلو باسم الإسلام يرتبط بوجود النظم الديكتاتورية ارتباط علة بمعلول، وهذا من جهة أولى. أما من جهة ثانية، فهنالك صلة وثيقة، لا تسع المجال للتفصيل فيها، بين حلول الأنظمة العسكرية أو الأنظمة التي نشأت في هذا البلد العربي أو ذاك بموجب انقلابات عسكرية وبين إقصاء الدين والدفع به إلى الطرف القصي من الوجود السياسي والاجتماعي (قدر الإمكان). ليس صدفة ولا من قبيل الصدفة أن يكون ظهور السلفيات الجهادية، في صورها المتنوعة، في البلدان العربية التي شهدت انقلابات عسكرية والتفسير المباشر لذلك هو أن تلك البلدان دعت إلى نوع من الاشتراكيات العلمية التي تقول بتعطيل الدين كلا أو بعضا وفي الأحوال كلها تسعى إلى الدفع به إلى منطقة الظل في بلاد كان الدين فيها، قرونا متصلة، التعبير الروحي والثقافي الأسمى والمجال الذي يتم الوعي والإدراك فيه ومن خلاله. وحيث إن مختلف هذه النظم الانقلابية العسكرية قد فشلت، في الجملة، في تحقيق برامج التنمية التي دعت إليها، وكذا في الأخذ بالاشتراكية التي ما انفكت ترفع شعاراتها، فضلا عن إحقاق التحرير وتحرير فلسطين واجهته وبؤرة الوعي فيه، فقد استطاع شعار الإسلام بديلا أو «الإسلام هو الحل» أن يصادف تربة صالحة ومناخا ملائما.

أما حقيقة الأمر، عند شعوب عربية عانت من الكبت وانعدام الحرية عقودا كثيرة وشهدت من الفساد ألوانا وأصنافا كثيرة متنوعة، فإن «السلفية الجهادية» ربما كانت، من حيث الشعارات التي تحملها (الثورة على الظلم، محاربة الفساد، الثورة في وجه التجبر الإسرائيلي والمساندة المطلقة وغير المشروطة من قبل الولايات المتحدة الأميركية...) تجد فيه متنفسا دون أن تعتبرها بديلا سياسيا عن الواقع الظالم الذي تعيش فيه. من ذلك، مثلا، أن بعض تلك الشعوب كانت ترى في بن لادن وشيعته نوعا من البطولات الرومانسية دون أن تقصد تسليمه رقابها في الحكم وفي امتلاك زمام السلطة التنفيذية. غير أن هذا الرفض لا يعني، كما يتوهم البعض، أن الوعي الديني الإسلامي ضعيف في البلاد العربية. ربما وجب أن ندعو حملة هذا الزعم الكاذب إلى التفكير في الدلالات التي تحملها صلوات الجماعة في ميدان التحرير وكذا صلاة الجمعة في كل الجمع التي شهدها الميدان.

يبدو لي أن النتائج التي تم الإعلان عنها في الانتخابات التي تم التمهيد لها في تونس بكيفية دقيقة وكذا الشفافية التي تمت فيها، إنما هي مؤشر قوي ودال على ما نحن بصدد توضيحه.

والخلاصة الأولى والمباشرة، من الاقتراع الذي جرى في تونس هي النسبة العالية للمشاركة في الانتخابات بعد إذ تبين وجود ضمانات حقيقية على انعدام التزوير وممارسة كافة صور الضغط النفسي والسياسي على الناخبين، وبالتالي فهذا برهان قوي على الإقبال على الشأن العام والانشغال به. والخلاصة الثانية، وربما كانت هي بيت القصيد، هي أن الحساسيات الإسلامية في تونس (ونكرر مرة أخرى أن تونس تظل مؤشرا قويا) ذات حضور وتأثير قويين (تفيد النتائج المحصل عليها أن الحضور يبلغ نسبة الأربعين في المائة). والخلاصة الثالثة، وهي الأكثر أهمية من الناحية السياسية، هي أن الوجود السياسي في تونس لا يملك أن يفرز أغلبية سياسية على غرار الأغلبية التي تفرزها الانتخابات في الديمقراطيات الغربية. أما الدلالة التي تحملها هذه المقارنة فهي واضحة، نكاد نقول إنها تنطق بذاتها. إنها الحاجة، في الحاضر وفي المستقبل القريب المنظور إلى التحالف السياسي بين قوى سياسية متقاربة في الأهداف التي تروم تحقيقها ومتوافقة في رفض الواقع الذي تروم استبداله.

يبدو لي أن في ما كنت أحوم حوله في حديثي اليوم جوابا عن التساؤل الذي جعلته عنوانا لمقالتي: لا، لا أحسب أن النموذج التركي قابل للاستيراد في العالم العربي ولا أظن أنه، في واقعنا الراهن، يمتلك فرصا مواتية للتحقق.