رقصة زوربا اليونانية.. بالفلوس!

TT

عرف عن اليونان وأهلها شغفهم بنوع محدد من الأدب المرتبط بالمأساة سمي باسمهم وعرف بأدب المآسي الإغريقية، واليوم تصر اليونان على قلب العالم رأسا على عقب «برقصة زوربا» كلاسيكية على وقع الصحون المتناثرة على قدمي الراقص في مشهد معروف لدى اليونانيين.

إنه وصف هزلي لما أحدثه قرار رئيس الوزراء اليوناني بتحويل قرار سياسة التقشف المالي الحاد الذي قرره المجتمع المالي الدولي بحق اليونان؛ لإنقاذها من أزمة ديونها الكارثية، إلى استفتاء شعبي عام لتقرير «قبول» ذلك الأمر أو رفضه، مما جعل العالم يحبس أنفاسه، والأسواق تهبط فجأة؛ لأن قرار رئيس الوزراء كان مفاجئا، ليس فقط لزعماء العالم الذين اجتمعوا معه قبل ساعات من إعلانه المفاجئ هذا، ولكنه كان مفاجئا أيضا حتى بالنسبة لأقرب وزرائه ومساعديه، ولكن رئيس وزراء اليونان (البلد الذي أسس للعالم الديمقراطية نفسها) قرر أن يتعامل مع أزمته الخانقة بمبدأ ديمقراطي ويحيل القرار المصيري لبلاده إلى الشعب نفسه.

رفض الشعب لهذا القرار سوف يكون بمثابة الإعلان عن إفلاس اليونان وخروجها عمليا من منطقة اليورو، وتهديدا حقيقيا للمصارف التي أقرضتها المبالغ الكبرى.

اليونان ذلك البلد القديم المكون من أرخبيل من الجزر متناثرة في قلب البحر الأبيض المتوسط، بلد الإسكندر وسقراط وأفلاطون وأرسطو، بلد الأساطير والفكر والحكمة، بلد الطبيعة والزيتون والبحر، فقد سحره وبريقه، وأصبح هذا البلد اليوم ورما خبيثا في الجسد الاقتصادي العالمي.

كانت اليونان في السبعينات الميلادية من القرن الماضي بلدا يعاني من حكم ديكتاتوري، ومحاولات للتوصل إلى تمثيل شعبي وديمقراطي، ونجح في ذلك، وكان اقتصاده تقليديا جدا، يعتمد على السياحة وعلى الزراعة بشكل أساسي، مع تميز بعض رجال أعماله في أن يكونوا ثروات طائلة لأنهم تمكنوا من احتكار صناعة نقل النفط بناقلاتهم العملاقة.

وظهرت شخصيات مشهورة ونافذة على تلك الساحة، مثل أرستوتل أوناسيس، وجون لاتسيس، وغيرهما، وكانت عملة بلادهم وقتها «الدراخمة»، كما اقتصادها، متواضعة وضعيفة، ومرت الأيام وقررت بعض الدول الأوروبية الكبرى والنافذة ضرورة إطلاق السوق الأوروبية وتوحيد العملة فيها، وكان ما كان، وضمت اليونان معها، ولكن اليونان لم تكن واقعيا مجهزة لهذه النقلة الهائلة، وهي نقلة أشبه بمن يركب دراجة عادية ومطلوب منه أن يلحق بسيارة «فيراري»، وذلك في مقارنة للواقع الاقتصادي بين اليونان وألمانيا على سبيل المثال. وكانت هناك تكلفة اجتماعية كبيرة على اليونان، فالأسعار ارتفعت بشكل كبير جراء التضخم الهائل في الأسعار والتكلفة، وكذلك كانت هناك تكلفة اجتماعية مهولة لا يمكن إغفالها، نتجت عن تسريح الآلاف من العمال والموظفين بسبب سياسات الخصخصة الكبيرة التي اتبعتها اليونان، حتى يكون اقتصادها، الذي كان يعتمد بشكل أساسي على القطاع العام وذا «نكهة اشتراكية» واضحة المعالم، أكثر فعالية وملاءة وقوة.

دول السوق الأوروبية مصابة بقلق وحرج شديدين؛ لأنها كانت تعتقد أنها توصلت إلى اتفاق نهائي وسينفذ مع اليونان، وتفاعلت أسواق العالم بشكل إيجابي مع تلك الأخبار، وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يستعد لاستضافة قمة دول العشرين الاقتصادية في مدينة كان الساحلية على الساحل اللازوردي بالمتوسط، ليعلن للعالم انتصار أوروبا على أزمة ديون اليونان، ولكن الفرحة تبقى معلقة بانتظار حسم النتيجة من قبل الشعب اليوناني واستفتائه.

عموما الشعب اليوناني لا يزال متمسكا بالسوق الأوروبية، ولكنه مقبل على مرحلة دقيقة جدا في حالة قبوله للعلاج الاقتصادي المقترح.. فترة سيكون فيها الاضطراب العام والجريمة، ولكنها ستؤدي إلى محاربة الفساد والمافيا المصرفية التي تحكمت بالبنوك وكونت ثروات مريبة أدت إلى ما أدت إليه. اليونان ذلك البلد الذي يبلغ مهاجروه خارجه في كندا وأستراليا وأميركا، عددا أكبر من سكانه، اليوم يراقبه العالم بقلق وحيرة. التراجيديا اليونانية تحيا مجددا بشكل عصري!

[email protected]