الثورة لا تقوم كي تدوم

TT

لم أكن أحلم بالسفر إلى ليبيا، لأنه لم يكن يخطر لي أن الجماهيرية سوف تزول ذات يوم. وكانت لدي قناعة بأن جذور العقم الفكري والخلقي قد ضربت في الأرض مثل حشائش الشوك، وسوف تظل تنمو وتغطي الربيع الجميل وتمنع النبت الطيب. لكن عندما تحررت بنغازي بدأت أسائل فكرة الذهاب. ولكن كيف؟ لقد فقدت معظم الذين كنت أتمنى لو أطالوا الإقامة في هذا العالم: رشاد الهوني وصادق النيهوم وعبد الحميد البكوش والحاج حديفة. كيف أسافر؟ عن أي طريق؟ وإلى أي فندق؟ وهل يتحمل العمر صوت الصخب وضجيج الفوضى، ولو فرحا؟ خطر لي أن أنظم رحلة عن طريق محمود شمام، الوجه الإعلامي للثورة، لكن كيف الاتصال بمحمود؟ على أي طائرة، وسط أي جماهير؟ واكتفيت من الثورة بهاتف من سالم الكتبي، حارس إرث الصادق، الذي وصل القاهرة من طرابلس: «طلب مني محمد وعبد الرازق والجميع إبلاغك أنهم بخير وأن الحمد لله ثم الحمد لله».

التقينا في دبي وفد تلفزيون الثورة قبل سقوط طرابلس. تقدمت مني فتاة فيها كل شجاعة الليبيين وسط البهو المكتظ بالزملاء، وقالت: «هل تسمح أن نعانقك جميعا باسم الثورة»؟ قلت متخلصا من إحراج الفتاة الجميلة للعجوز الذي هو أنا: فننتظر اكتمال الثورة. بنغازي وحدها لا تكفي. شرق ليبيا ليس «باهيا» من دون غربها. لطالما حدثني الحاج حديفة عن مدينته غريان، يجب أن نطمئن على غريان أولا.

ثم بعد سقوط طرابلس خطر لي أن السفر إليها ممكن، بعكس بنغازي. كم سوف يكون المشهد تاريخيا. هل عبثا أن الاسم الشائع عند الليبيين هو «فَرَج» و«مفتاح». أيقصدون مفتاح المدينة؟ مفتاح النهاية؟ مفتاح عودة الجماهيرية إلى الجماهير، إلى الناس، إلى البشر، من كتائب خميس وكتائب الساعدي وكتائب المعتصم وكتائب عموم اللجان والزحف الأصفر؟

هل تعرفون ما حدث؟ لقد تسنى له أن يشاهد، قبل النهاية الفظيعة والمستفظعة، كيف عادت الجماهيرية إلى الناس. كيف صارت ساحة الزحف ساحة الشهداء. كيف طفقت الجماهير في الشوارع تهلل وتغني. ولم تكن تهتف لزعيم جديد بل تفرح فقط بغيابه. بزوال صورته التي تحولت رسما كاريكاتوريا على الجدران وفي صحف العالم.

آمل أن أذهب ذات يوم. أن يهدأ الليبيون ويرفعوا السلاح من الشوارع، وأن يدرك الثوار القاعدة التاريخية، وهي أن الثورة لا تقوم من أجل أن تدوم بل من أجل أن يدوم الوطن حرا وسويا.