وماذا بعد؟..

TT

نعم.. وماذا بعد؟ فها هي الولايات المتحدة تنهي شهراً من القصف الجوي على افغانستان، دون أن تبدو في الأفق بداية حقيقية للنهاية. هل ستستمر في القصف الجوي الى ما لا نهاية، دون ان يكون هناك هدف واضح للعملية بكاملها، حتى لو كان هنالك هدف رسمي معلن؟ أم أنها ستصل الى قناعة بأنها تسرعت في رد الفعل وإعلان الحرب، وتتوقف فجأة حين تدرك صعوبة اخراج الارانب من جحورها، وتعود ذكرى فيتنام تطوف بالمخيلة الأميركية، فتقول انها ثأرت لما حدث يوم الثلاثاء الأسود، وليحل أهل المنطقة مشكلاتهم؟ لو فعلت الولايات المتحدة ذلك، فإنها ستعرض نفسها، وليس الآخرين فقط، لشرور لن يكون ما حدث في مانهاتن إلا مجرد عينة عابرة للرعب الذي سينشره هؤلاء في العالم أجمع، وتكون أميركا أول الجميع، ولكن بالطبع لا يمكن ان يحدث ذلك، وإلا كانت المسألة كلها نوعاً من العبث، فمن ناحية، فإن مجرد استمرار القصف الجوي إلى ما لا نهاية يكلف الاقتصاد الاميركي الشيء الكثير، بل هو استنزاف لذلك الاقتصاد حقيقة، في الوقت الذي ليس لدى طالبان ما تخسره، مما يعني انه كلما طال أمد القصف، كان ذلك نصرا بطيئا لطالبان، ودافعاً معنوياً لأنصارها، وهذا مما لا تتحمله أميركا والعالم. وبالتالي فإن استمرار القصف لا بد ان يتوقف، بعد ان لم يعد هناك ما يقصف. ومن ناحية اخرى، فلا اعتقد ان اميركا ستوقف عملياتها، حتى لو وصلت الى قناعة بأنها تسرعت في العمل العسكري، وبالرغم من طيف فيتنام والاتحاد السوفيتي في افغانستان، فإن نتائج التوقف سوف تكون أوخم من نتائج الاستمرار، من حيث هو نصر معنوي وسياسي للطرف الآخر. في تقديري أن اميركا سوف تحاول أن تنهي العمل بهذه الطريقة أو تلك، مهما كانت كلفة الأمر، ولكن مشكلات الاستقرار في افغانستان هي من يقف في طريق ذلك. ليست القضية هنا أن الولايات المتحدة غير قادرة على الحسم العسكري، ولكن مجرد الحسم لأجل الحسم لا يعني شيئاً في النهاية، سواء كان عسكرياً أو سياسيا، طالما أنه ليس هناك تصور للوضع النهائي في افغانستان بعد سقوط طالبان.

فمن الناحية العسكرية، وكما يقول الخبراء الاستراتيجيون، فإن الحسم العسكري يحتاج الى الزج بقوات برية كبيرة على الأرض، فلا نصر دون قوات برية، والولايات المتحدة وحلفاؤها قادرون على ذلك، رغم كراهيتهم لذلك، ومن ثم السيطرة على كابل وقندهار، ولكن ماذا بعد ذلك؟ في هذه الحالة، قد تلجأ طالبان الى المغاور والكهوف، وتصبح شوكة مستديمة في جسد القوات الغازية وحلفائها، خاصة أن ولاء القبائل والعرقيات الأفغانية ليس حاسماً في هذا الاتجاه أو ذاك، ولا ننسى رد فعل مؤيدي حركة طالبان وتنظيم «القاعدة» في مختلف ارجاء العالم، مما سيحول النصر الظاهر الى هزيمة باطنة في النهاية، وبالتالي ازدهار الإرهاب بدل القضاء عليه. ليست المشكلة في اجتياح كابل وقندهار ومزار شريف وجلال اباد، ولكنها فيما بعد الأجتياح، وهذا يقودنا بالتالي الى المشكلة السياسية، وهي المشكلة المحورية في الحالة الأفغانية.

عندما توقفت قوات التحالف الدولي عند الحدود العراقية ـ الكويتية في أعقاب خروج القوات العراقية من الكويت عام 1991، ولم تحاول الذهاب بعيداً الى بغداد نفسها واسقاط النظام، أعلن بوش الأب ان هدف الحرب كان اخراج قوات صدام حسين من الكويت، وليس اسقاط النظام العراقي، وقد تحقق الهدف، وبالتالي فهو النصر، رغم معارضة شوارسكوف لمثل هذا الأمر، وهو الذي كان يرى الطريق سالكاً الى بغداد، وفي تقديري ان المسألة لم تكن بالنسبة لبوش الاكتفاء بهدف الحرب المعلن آنذاك، بقدر ان المعضلة كانت فيمن سيكون البديل لنظام صدام حسين فيما لو اسقط. ففي ظل ضعف المعارضة العراقية واختلافها مذاهب وشيعاً، فإن البديل في العراق قد يكون نوعا من الفراغ السياسي، ثم الفوضى الداخلية التي قد تكون نتائجها السلبية المدمرة على العراق وجيرانه، ومن ثم العالم اجمع، اكثر من نشوة اسقاط النظام، لقد احتفظ النظام العراقي بوجوده في النهاية نتيجة غياب البديل السياسي له، وليس لقوة النظام أو شعبيته. وكان الاعتقاد السائد آنذاك، ان الهزيمة العسكرية للنظام سوف تؤدي الى ثورة شعبية تخلق قيادتها، كما حدث في اقطار كثيرة تاريخيا، وبالتالي فإن التحول قادم للعراق دون الحاجة الى تدخل عسكري خارجي، ولكن تبين ان حسابات الحقل لا تنطبق على حسابات البيدر، وبقي النظام العراقي قائماً، رغم الضيق الدولي به، لأسباب سياسية بحتة، لا علاقة لها بعلاقات القوة الصرفة آنذاك. وبعد انتهاء الحرب وعدم سقوط النظام أو اسقاطه، بقي حتى هذه اللحظة مثل الحسكة في الحلق: ان بلعت أوجعت، وان لفظت أوجعت، وان بقيت في مكانها أوجعت، وهو باق في مكانه.

ذات الشيء تقريباً نراه يتكرر في الحالة الأفغانية، حيث ان غياب البديل السياسي هو ما يجعل من العمليات العسكرية الحالية، أو ما هو مفكر فيه من اجتياح بري، غير ذي جدوى في النهاية بحد ذاته، مؤتمر بيشاور الاخير كان محاولة لخلق هذا البديل، عن طريق خلق نوع من الاتفاق بين فصائل المعارضة الأفغانية من ناحية، ونوع من «عقد اجتماعي» راسخ بين العرقيات الأفغانية، ولكن ذلك لم يحدث، وهنا يكمن العائق الرئيسي في نجاح الجهود العسكرية. فمن السهل جداً ان تدخل قوات تحالف الشمال كل المدن الأفغانية الهامة، مع مساعدة القوات الأميركية بالطبع، ولكن ليس من السهل ان يستطيع هذا التحالف السيطرة على الأوضاع في افغانستان، خاصة أنه لا يضم في صفوفه أهم العرقيات الافغانية واكبرها، الا وهم البشتون، مشكلة طالبان، بالاضافة الى مشكلتها الايديولوجية، هو كونها ممثلة لعرقية واحدة هي البشتون، ومشكلة تحالف الشمال انه يفتقر الى وجود مثل هذه العرقية ضمن صفوفه. اسقاط طالبان دون ان يكون هناك تمثيل لهذه العرقية الأكبر في افغانستان مسألة لا تستقيم، ومن هنا يأتي تخوف البشتون من سقوط طالبان، وهي الممثل السياسي الأوحد لهم في هذه الظروف، دون أن تكون هنالك ضمانات محددة وواضحة لتمثيلهم في نظام الحكم القادم. فالبشتون خائفون من أن سقوط طالبان يعني نوعاً من تهميشهم، وهم الأكثرية، ناهيك من الخوف من الانتقام منهم، وذلك مثل تخوف سنة العراق من عواقب سقوط نظام صدام حسين على مستقبلهم. ليس من الضروري أن يكون مثل هذا التخوف صحيحاً، وليس من الضروري ان يكون خاطئاً ايضاً، ولكن السلوك السياسي للأفراد والجماعات لا ينطلق دائماً من الحقائق وحدها.

هذا من الناحية الداخلية، ومن الناحية الخارجية الإقليمية، فإن دولة مثل باكستان، وهي عضو محوري في التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي تتزعمه الولايات المتحدة، لا تنظر بعين الرضى الى سقوط نظام طالبان الحالي، دون أن تكون هناك ضمانات خاصة لوضع باكستان في افغانستان، وهو ما لا يمكن ان تضمنه في حالة سيطرة تحالف الشمال على الأوضاع هناك. فجزء من ثوابت السياسة الخارجية الباكستانية كما يبدو، هو وجود حكومة افغانية ذات ولاء نسبي لإسلام اباد، ضمن خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها. بايجاز العبارة، فإن اسلام اباد تنظر الى كابل بذات النظرة التي تنظر بها دمشق الى بيروت مثلا، وبالنسبة للقوى الأخرى، روسيا والهند والصين، فإنه لا يعرف موقفها الحقيقي من التطورات في المنطقة. فرغم ان الجميع مشاركون في التحالف الدولي ضد الارهاب، إلا ان لهم نظراتهم الخاصة فيما يتعلق بأوضاع المنطقة في اعقاب سقوط طالبان، وهذه نظرات ليس من الضروري ان تكون منسجمة، مما يزيد من تعقيد الصورة. من هنا، فإن الولايات المتحدة تجد نفسها في حالة حرجة: فهي تريد اسقاط حكومة طالبان، ولكنها لا تريد في نفس الوقت اغضاب حليفتها باكستان، أو بالأصح تهديد مصالحها الاستراتيجية عن طريق اضعاف هيمنتها النسبية في افغانستان. والولايات المتحدة لها مرئياتها الخاصة بالنسبة لأوضاع المنطقة، ولكنها تعلم تمام العلم ان هذه المرئيات قد لا تنسجم تمام الانسجام مع مرئيات حلفاء اليوم، ومنافسي الغد.

المشكلة ايضاً، وعلى خلاف الحالة العراقية هنا، ان نظام طالبان ساقط في النهاية لا محالة. ففي ظل العزلة التي تعيشها حكومة طالبان، فإنها ستفتقر في النهاية الى امدادات السلاح وغيرها، وهي لا تستطيع الاستمرار في المقاومة دون سلاح على أقل تقدير. فالنصر الذي حققه «المجاهدون» السابقون على الاتحاد السوفيتي، كان جزء منه مدينا لترسانة السلاح الاميركية التي كانت مفتوحة أمامهم، والتمويل الأميركي وغيره، الذي كان خير سند لأولئك المجاهدين، أو «مقاتلي الحرية» كما كانت الولايات المتحدة تسميهم آنذاك. أما اليوم، فإن «الجهاد» تنقصه الدولة الداعمة، بعد ان خرجت أميركا وباكستان والسعودية والإمارات وغيرها من الصورة. سقوط طالبان في النهاية، سوف يزيد من تعقيد الأمور، خاصة إذا لم يمكن التوصل الى صيغة سياسية مقبولة للحكم من الجميع، ساعتها سيتضافر الفراغ السياسي، مع الوجود العسكري الأميركي، مع صراع الفصائل السياسية، مع صدام الأعراق الأفغانية، وامتداداتها الإقليمية في باكستان وايران تحديداً، ليجعل من افغانستان نوعاً من فسيفساء متعددة الألوان والاحجام، لا يعلم الا الله مدى آثارها على الأوضاع الاقليمية والعالمية.

اذاً فإن المشكلة السياسية هي العائق أمام حلول السلام والاستقرار في افغانستان. وفي تقديري المتواضع، فإن الخطوة الأولى لحل هذه المشكلة لا يكون إلا بمعادلة سياسية في الداخل تقوم على ثلاثة محاور: ملكية دستورية + ديموقراطية تمثيلية + دولة فيدرالية، ففي بلد متعدد الأعراق والقوميات مثل افغانستان، تشكل الملكية نوعاً من الرمز الوطني الذي يمثل وحدة الوطن في مقابل كل اعراقه وقومياته، كما هو الحال في المملكة المتحدة مثلاً. وفي بلد مثل افغانستان، فإنه لا حل للتعددية العرقية الا بتمثيل نسبي في الادارة السياسية، وذاك لا يكون بدون ديموقراطية سياسية. واخيراً، فإنه في بلد مثل افغانستان، فإن الفيدرالية هي الشكل الأنسب للدولة، حيث يمكن ان تتمتع كل قومية من القوميات الأفغانية بنوع من الاستقلال الإداري والسياسي الداخلي في مقاطعتها، مع بقاء الوحدة السياسية للدولة الأفغانية. وحين تحل المشكلة السياسية الداخلية حلاً يناسب الجميع، فإن حل المشكلة الإقليمية، أي علاقات افغانستان بجيرانها، سوف يكون الخطوة التالية، وفق ترتيب تتفق عليه الأطراف المعنية.

قد يقول قائل: وأين ذهب أسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة» في هذا التحليل، ان كان له أن يكون تحليلاً؟ أقول هنا: في تاريخنا العربي الاسلامي، ثار الثائرون ذات يوم على علي بن ابي طالب، رضي الله عنه، بعد ان بويع بالخلافة في المدينة المنورة، مطالبين اياه بالاقتصاص من قتلة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وإلا فإنه لا بيعة له في أعناقهم. وجاء معاوية بن أبي سفيان، والي الشام وداهية العرب، بقميص عثمان الملطخ بدمه الى دمشق، ووضعه في المسجد، واخذ الناس يبكون من حوله ويطالبون بالقصاص من قاتليه. وقامت الحروب المستعرة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء يطالبون بدم عثمان ولا بيعة لعلي دون ذلك، وأولئك يقاتلون من خلع البيعة الشرعية أو رفضها، على اعتبار أن ولي الأمر الشرعي هو صاحب الحق في دم عثمان. وفي النهاية، وبعد خمس سنين من الحروب الأهلية الدامية، استقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، فاختفى ذكر القميص وصاحبه وقاتليه. لقد كان واضحاً ان قميص عثمان كان مجرد وسيلة لتحقيق غايات ليس القصاص احدها على أية حال. وفي الحالة التي نتحدث عنها هنا، فإنه يبدو في النهاية أن أحداث الثلاثاء الأسود، وبن لادن وتنظيم «القاعدة»، سوف تلقى مصير عثمان وقتلته، كما أصبحت هي بذاتها قميص عثمان، والهدف في النهاية هو اعادة تنظيم العالم بما ينسجم مع القواعد الجديدة التي افرزتها ظاهرة العولمة المعاصرة ومتغيراتها السياسية.. ولكن يبدو ان ذلك سوف يدخلنا في متاهة اخرى من متاهات هذا الزمان، فوجب التوقف.. وسلامتكم.