نوفمبر السوداني

TT

يحفل شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي بتطورين رئيسيين فيما يخص الشأن السوداني، يتعلق اولهما بزيارة المبعوث الامريكي جون دانفورث المرتقبة خلال الاسبوعين المقبلين وقبلها استضافة العاصمة النيجيرية ابوجا لمؤتمر للقوى السياسية الجنوبية.

تعتبر زيارة دانفورث المبعوث الرئاسي اول تعاط لادارة بوش مع الحكم القائم في السودان على هذا المستوى. ادارة بيل كلينتون السابقة ارسلت مبعوثين خلال فترتيها هما السفيرة ميلسيا ويلز والسناتور السابق هاري جونستون، ولم يحققا شيئا يذكر لعدم وضوح استراتيجية محددة للسياسية الامريكية التي كانت تتنازعها عوامل ما بين السعي الى اسقاط الحكم القائم والضغط عليه بهدف اصلاحه، هذا الى جانب التجاذب بين الادارات المختلفة وتغييب وزارة الخارجية بصورة شبه كلية عن ملف السودان.

في الاسبوع الماضي زار وفد بقيادة نائب مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية شارلس شنايدر الخرطوم ومعه السفير السابق روبرت اوكلي، الذي يعمل مساعدا لدانفورث للاعداد للزيارة، وهذا تطور لافت للنظر، اذ اصبحت مختلف المؤسسات مشاركة في التعامل مع الملف السوداني على غير ما كان عليه الامر في السابق.

ورغم هذه الاشارات المشجعة التي يضاف اليها ما تردد عن تعاون السودان مع الجهد الامريكي في مكافحة الارهاب، إلا ان الطريق لا يزال طويلا امام تطبيع كامل للعلاقات بين البلدين. ويوم الخميس الماضي جددت الولايات المتحدة ولعام كامل حظرها الاقتصادي الانفرادي على السودان، مستندة الى استمرار الحرب الاهلية وانتهاك حقوق الانسان، ويبدو ان الامر يحتاج الى اختراق حقيقي خلال هذين الشهرين كي لا يتم تمديد وضع السودان على لائحة الدول التي ترعى الارهاب التي تصدرها وزارة الخارجية في الربيع المقبل.

وعليه فالزيارة المرتقبة للمبعوث ونتائجها يمكن ان تكون مؤشرا على ما ستكون عليه العلاقات السودانية ـ الامريكية مستقبلا.

على ان الاهم من ذلك اللقاء الذي تعتزم القيادة النيجيرية استضافته للفصائل الجنوبية في الثاني عشر من هذا الشهر، وتنبع الاهمية من ان اللقاء يسعى الى جمع كل الفصائل والشخصيات الجنوبية تحت سقف واحد. وتضم القائمة التي قد تصل الى نحو مائة مشارك الحركة الشعبية والفصائل الاخرى المقاتلة سواء تلك التي تحالف الحكومة او الحركة او البعيدة عن الاثنين، اضافة الى القوى السياسية الجنوبية المساندة للحكومة وتلك المعارضة لها، الموجودة داخل السودان او خارجه.

الاعداد لهذا اللقاء استغرق وقتا طويلا. وليس سرا ان الحركة الشعبية لم تكن راغبة به لانها تصنف نفسها على اساس انها حركة قومية وان مشاكل الجنوب جزء من المشكلة الوطنية العامة التي يعاني منها السودان. يبقى الانتظار لمعرفة مشاركة الحركة واهم من هذا ما يمكن ان يتمخض عنه اللقاء، الذي حظي بمباركة بعض القيادات الافريقية على رأسها الزعيم الليبي معمر القذافي، التي اتبعت موقفا مساندا للحركة الشعبية الى حد بعيد.

أحدى النتائج التي بدأت تطل برأسها حتى قبل انعقاد المؤتمر ان الشعار الذي يرفعه الدكتور جون قرنق باعادة هيكلة السودان واستخدام العمل المسلح وسيلة لتحقيق هذا الهدف وبروز قرنق متحدثا وحيدا باسم الجنوب خلال الفترة الماضية في طريقه الى التراجع.

فهناك العديد من القيادات الجنوبية المعارضة التي ترى ان 18 عاما من الاقتتال لم تحقق شيئا، الامر الذي يتطلب اعادة النظر في الاهداف والوسائل المستخدمة وحال تعذر ذلك فإن قيادة الحركة الشعبية للحديث باسم الجنوب تصبح هي نفسها محل تساؤل.

وللدقة فان هذا الاتجاه ليس جديدا، فهناك الكثير من القيادات التي انتقدت مواقف قرنق وانشقت عنه، بل واقتتلت معه، ابرزها الدكتور رياك مشار ولام اكول، لكنهما انتهيا في خندق الحكومة، الامر الذي قلل من اهمية دعواتهما.

هذه المرة يبدو الامر مختلفا لوجود جهة محايدة هي نيجيريا، التي عملت على ترتيب امر هذه الدعوة الشاملة التي وجهت لمختلف الفصائل والقوى السياسية الجنوبية، مما يفتح الباب امام طرح مختلف له مصداقية.

ثم ان وضع الحكم على الساحة الاقليمية والدولية يبدو مختلفا عما كان عليه الامر في السابق، اذ تمكن من تطبيع معظم علاقاته الافريقية والعربية والدولية، الامر الذي يعطيه قبولا افضل مما كان عليه من قبل.

هل نيجيريا على طريق طرح مبادرة جديدة تضاف الى مسلسل المبادرات التي تعنى بالشأن السوداني؟

نيجيريا التي استضافت جولتي مباحثات بين الحكومة والحركة الشعبية قبل قرابة عقد من الزمان على ايام الرئيس الاسبق ابراهيم بابنجيدا تتمتع بخصائص لا تتوفر لأي من الوسطاء الآخرين، فهي دولة افريقية، الامر الذي يجعلها اكثر قبولا للجنوبيين، كما انها متمسكة بشعار وحدة الدول الافريقية، الامر الذي يجعلها مقبولة للحكومة. وتتردد بعض الروايات ان الرئيس أوليسيجون اوباسانجو ابلغ العديد من الشخصيات الجنوبية التي التقاها ان نيجيريا التي قاتلت ضد انفصال بيافرا لن تعقد مؤتمرا في اراضيها لتمرير انفصال جنوب السودان، لكنها على استعداد للمعاونة في البحث في الضمانات والآليات التي يرغب بها الجنوب للحصول على حقوقه ووضع البلاد على طريق السلام والاستقرار.

ليس واضحا حتى الآن الخطوة التالية بعد عقد اللقاء الجنوبي ـ الجنوبي، لكن لنيجيريا ميزة اخرى، تتمثل في بعدها الجغرافي عن السودان، الامر الذي لا يلون تحركاتها بمصالح خاصة، كما هو الحال مع دول الجوار في العادة.

والمأمول ان يتمكن المؤتمر من حشد القوى السياسية الجنوبية امام رؤية واحدة موحدة تلزم الجميع. فمشاكل الجنوب ليست كلها من صنع الشمال وحده، وانما كانت السياسات الخاطئة من قبل القوى الشمالية تجد لها سندا من بعض الجنوبيين. فقرار المضي قدما في اجراء انتخابات جزئية في جنوب السودان عقب ثورة اكتوبر الشعبية بسبب تردي الوضع الامني في عام 1965 اصبح ممكنا فقط عندما قرر لويجي ادوك العضو الخامس في مجلس السيادة التصويت الى جانبه، اذ كانت الكفة متعادلة بين من يؤيدون اجراء الانتخابات الجزئية ومن يعارضونها في المجلس الخماسي المكون من اربعة اعضاء شماليين وجنوبي واحد انحاز في النهاية الى خيار اجراء الانتخابات الجزئية.

وبعد عقدين من الزمان جلس اللواء جوزيف لاقو قائد التمرد الاول الى جوار الرئيس الاسبق جعفر النميري، الذي قال انه ولاقو وقعا اتفاقية اديس ابابا التي انهت الحرب الاولى عام 1972، وانهما قررا وقتها تعديل تلك الاتفاقية دون الالتزام بنصوص وروح الاتفاقية، الامر الذي فتح الباب لتجدد الحرب الاهلية مرة اخرى وحتى اليوم.

عملية التطبيع الجارية مع واشنطن والجهد الذي تقوم به نيجيريا لن يغني عن جهد سوداني خالص للوصول الى السلام. ويمكن لواشنطن استخدام العديد من الاوراق التي بحوزتها للضغط هنا وهناك، كما يمكن لنيجيريا ممارسة ثقلها المعنوي والاخلاقي وكونها من اكبر الديمقراطيات الافريقية، لكن يبقى من المهم محاولة التوصل الى اجابة عن السؤال الصعب ألم يحن الأوان للتمعن في السياسات والشعارات التي أكلت الاخضر واليابس خلال خمسة عقود من السودان المستقل؟